قيل : وكان لك ذنبا من الصغائر ، فلذا عاتبه الله عليه ، وقيل : إنها معاتبة على ترك الأولى (١) (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي : شرع لكم تحليل أيمانكم ، وبيّن لكم ذلك ، وتحلة أصلها تحللة ، فأدغمت. وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية ، فكأن اليمين عقد ، والكفّارة حلّ ، لأنها تحلّ للحالف ما حرّمه على نفسه. قال مقاتل : المعنى قد بيّن الله كفّارة أيمانكم في سورة المائدة. أمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يكفر يمينه ويراجع وليدته فأعتق رقبة. قال الزجاج : وليس لأحد أن يحرم ما أحلّ الله.
قلت : وهذا هو الحق أن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه. فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره ، ومعاتبته لنبيه صلىاللهعليهوسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك ، والبحث طويل والمذاهب فيه كثيرة والمقالات فيه طويلة ، وقد حققناه في مؤلفاتنا بما يشفي.
واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف ، وليس في الآية ما يدل على أنه يمين ؛ لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحلّه له ، ثم قال : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها سبب نزول الآية أنه حرم أولا ثم حلف ثانيا كما قدمنا (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي : وليّكم وناصركم والمتولّي لأموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما فيه صلاحكم وفلاحكم (الْحَكِيمُ) في أفعاله وأقواله.
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال أكثر المفسرين : هي حفصة كما سبق ، والحديث هو تحريم مارية ، أو العسل ، أو تحريم التي وهبت نفسها له ، والعامل في الظرف فعل مقدر ، أي : واذكر إذ أسرّ. وقال الكلبي : أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت به غيرها (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي : أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي : عرّف حفصة بعض ما أخبرت به. قرأ الجمهور : «عرف» مشددا من التعريف ، وقرأ علي وطلحة بن مصرّف وأبو عبد الرّحمن السّلمي والحسن وقتادة والكسائي بالتخفيف. واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لقوله : (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي : لم يعرفها إياه ، ولو كان مخففا لقال في ضده : وأنكر بعضا (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي وأعرض عن تعريف بعض ذلك كراهة أن ينتشر في الناس ، وقيل : الّذي أعرض عنه هو حديث مارية. وللمفسرين ها هنا خبط وخلط ، وكل جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول ، وسنوضح لك ذلك إن شاء الله (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : أخبرها بما أفشت من الحديث (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي : من أخبرك به (قالَ : نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي : أخبرني الّذي لا تخفى عليه خافية. (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الخطاب لعائشة وحفصة ، أي : إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، ومعنى (صَغَتْ) عدلت ومالت عن الحق ، وهو
__________________
(١). قال القرطبي (١٨ / ١٨٤) : والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنّه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.