الأنعام : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (١) فقيل : المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما ، وهم الإنس ، كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢) أي : من أحدهما (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي : لا يفوت الله ، ولا يسبقه ، ولا يقدر على الهرب منه ؛ لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها ، وفي هذا ترهيب شديد (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي : أنصار يمنعونه من عذاب الله. بيّن سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى من لا يجب داعي الله ، وأخبر أنهم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ظاهر واضح. ثم ذكر سبحانه دليلا على البعث ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، أي : ألم يتفكّروا ولم يعلموا أن الّذي خلق هذه الأجرام العظام من السّموات والأرض ابتداء (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي : لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه ، يقال : عيّ بالأمر وعيي ؛ إذا لم يهتد لوجهه ، ومنه قول الشاعر (٣) :
عيّوا بأمرهم كما |
|
عيّت ببيضتها الحمامه |
قرأ الجمهور : (وَلَمْ يَعْيَ) بسكون العين وفتح الياء مضارع عيي. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد ، كما في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤). قال الكسائي والفراء والزجاج : العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام ، فتقول : ما أظنّك بقائم ، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن ، وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب وزيد بن عليّ «يقدر» على صيغة المضارع ، واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية ، قال : لأن دخول الباء في خبر أنّ قبيح. (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) الظرف متعلق بقول مقدّر ، أي : يقال ذلك اليوم للذين كفروا (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) وهذه الجملة هي المحكية بالقول ، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار ، وفي الاكتفاء بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى ، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم ؛ لأنّ المشاهدة هي حقّ اليقين الّذي لا يمكن جحده ولا إنكاره (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي : بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له ، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكّم عظيم. لما قرّر سبحانه الأدلة على النبوّة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر ، فقال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) والفاء جواب شرط محذوف ، أي : إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجع في الكافرين فاصبر كما صبر أولو العزم ، أي : أرباب الثبات والحزم فإنك منهم. قال مجاهد : أولو
__________________
(١). الأنعام : ١٣٠.
(٢). الرّحمن : ٢٢.
(٣). هو عبيد بن الأبرص.
(٤). النساء : ٧٩.