ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأول أولى (قالُوا أَنْصِتُوا) أي : قال بعضهم لبعض اسكتوا ، أمروا بعضهم بعضا بذلك لأجل أن يسمعوا (فَلَمَّا قُضِيَ) قرأ الجمهور (قُضِيَ) مبنيا للمفعول ؛ أي : فرغ من تلاوته. وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولا حق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل ، أي : فرغ النبيّ صلىاللهعليهوسلم من تلاوته ، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في (حَضَرُوهُ) للقرآن ، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبيّ صلىاللهعليهوسلم (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي : انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم ، وانتصاب (مُنْذِرِينَ) على الحال المقدّرة ، أي : مقدّرين الإنذار ، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك. (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) يعنون القرآن ؛ وفي الكلام حذف ، والتقدير : فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا. قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : لما قبله من الكتب المنزّلة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي : إلى الدّين الحقّ (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : إلى طريق الله القويم. قال مقاتل : لم يبعث الله نبيا إلى الجنّ والإنس قبل محمد صلىاللهعليهوسلم (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) يعنون محمدا صلىاللهعليهوسلم أو القرآن (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : بعضها ، وهو ما عدا حقّ العباد ، وقيل : إن من هنا لابتداء الغاية. والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى ، وقيل : هي زائدة (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهو عذاب النار ، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجنّ حكم الإنس في الثّواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي. وقال الحسن : ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار ، وبه قال أبو حنيفة. والأوّل أولى ، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى. وعلى القول الأوّل ، فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا ترابا ، كما يقال للبهائم ، والثاني أرجح. وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجنّ والإنس : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ـ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) فامتنّ سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ، وممّا يؤيّد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل ، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل ، وممّا يؤيّد هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة ، وجزاء من عمل الصالحات الجنة ؛ وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة ، وغير ذلك ممّا هو كثير في الكتاب والسّنّة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا ، وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (٢). وقال : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (٣) وقال سبحانه في إبراهيم الخليل : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (٤) ، فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم هو من ذرّيته ، وأما قوله تعالى في سورة
__________________
(١). الرّحمن : ٤٦ و ٤٧.
(٢). يوسف : ١٠٩.
(٣). الفرقان : ٢٠.
(٤). العنكبوت : ٢٧.