عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له ، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون ؛ لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا ، وانتصاب (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) على الحال من ضمير «يدعون» ، و «أبصارهم» مرتفع به على الفاعلية ، ونسبة الخشوع إلى الأبصار ، وهو الخضوع والذلة لظهور أثره فيها (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : تغشاهم ذلّة شديدة وحسرة وندامة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي : في الدنيا (وَهُمْ سالِمُونَ) أي : معافون عن العلل متمكّنون من الفعل. قال إبراهيم التّيمي : يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقال سعيد بن جبير : يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيبون. قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلّفون عن الجماعات. وقيل : يدعون بالتكليف المتوجّه عليهم بالشرع فلا يجيبون ، وجملة (وَهُمْ سالِمُونَ) في محل نصب على الحال من ضمير يدعون (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي : حل بيني وبينه وكل أمره إليّ فأنا أكفيكه. قال الزجاج : معناه لا يشتغل به قلبك ، كله إليّ أكفك أمره. والفاء لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها ، و (مَنْ) منصوب بالعطف على ضمير المتكلم أو على أنه مفعول معه ، والمراد بهذا الحديث القرآن ، قاله السدّي. وقيل : يوم القيامة ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وجملة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ، والضمير عائد إلى «من» باعتبار معناها ، والمعنى : سنأخذهم بالعذاب على غفلة ، ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه ؛ من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج ؛ لأنهم يظنّونه إنعاما ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته. قال سفيان الثوري : يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر. وقال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه! وكم من مفتون بالثناء عليه! وكم من مغرور بالستر عليه! والاستدراج : ترك المعاجلة ، وأصله النقل من حال إلى حال ، ويقال : استدرج فلان فلانا ، أي : استخرج ما عنده قليلا قليلا ، ويقال : درّجه إلى كذا واستدرجه ، بمعنى ، أي (١) أدناه إلى التدريج فتدرّج هو. ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين ، فقال : (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم ليزدادوا إثما. وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور ، وأصل الملاوة : المدّة من الدهر ، يقال : أملى الله له ، أي : أطال له المدّة ، والملا ، مقصور : الأرض الواسعة ، سمّيت به لامتدادها (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي : قويّ شديد فلا يفوتني شيء ، وسمّى سبحانه إحسانه كيدا ، كما سمّاه استدراجا ؛ لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته ووصفه بالمتانة لقوّة أثره في التسبب للهلاك (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدّم من قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي : أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) المغرم : الغرامة ، أي : فهم من غرامة ذلك الأجر ، و «مثقلون» أي : يثقل عليهم حمله لشحّهم ببذل المال ، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب ، والاستفهام للتوبيخ لهم ، والمعنى : أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي : اللوح المحفوظ ، أو كلّ ما غاب عنهم ، فهم
__________________
(١). من تفسير القرطبي (١٨ / ٢٥٢)