قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي : زاد رجال الجنّ من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقا ، أي : سفها وطغيانا ، أو تكبرا وعتوّا ، أو : زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجنّ رهقا ؛ لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون : سدنا الجنّ والإنس. وبالأوّل قال مجاهد وقتادة ، وبالثاني قال أبو العالية وقتادة والربيع ابن أنس وابن زيد. والرهق في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم ، ورجل رهق ؛ إذا كان كذلك ، ومنه قوله : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (١) أي : تغشاهم ، ومنه قول الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها |
|
هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا |
يعني إثما. وقيل الرهق : الخوف ، أي : أن الجنّ زادت الإنس بهذا التعوّذ بهم خوفا منهم ، وقيل : كان الرجل من الإنس يقول : أعوذ بفلان من سادات العرب من جنّ هذا الوادي ، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجنّ ، فيكون قوله «برجال» وصفا لمن يستعيذون به من رجال الإنس ، أي : يعوذون بهم من شرّ الجن ، وهذا فيه بعد ، وإطلاق لفظ رجال على الجنّ ، على تسليم عدم صحته لغة ، لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاكلة (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) هذا من قول الجنّ للإنس ، أي : وإن الجنّ ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث. وقيل : المعنى : وإن الإنس ظنّوا كما ظننتم أيها الجنّ ، والمعنى : أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) هذا من قول الجنّ أيضا ، أي : طلبنا خبرها كما به جرت عادتنا (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع ، والحرس : جمع حارس ، و (شَدِيداً) صفة لحرسا ، أي : قويا (وَشُهُباً) جمع : شهاب ، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب ، كما تقدّم بيانه في تفسير قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) ومحل قوله : (مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا ؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين ، ويجوز أن يكون متعدّيا إلى مفعول واحد ، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد ، وحرسا منصوب على التمييز ، ووصفه بالمفرد اعتبارا باللفظ ، كما يقال السلف الصالح ، أي : الصالحين (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي : وإنا كنا معشر الجنّ قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع ، أي : مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، و «للسمع» متعلق بنقعد ، أي : لأجل السمع ، أو بمضمر هو صفة لمقاعد ، أي : مقاعد كائنة للسمع ، والمقاعد : جمع مقعد ، اسم كان ، وذلك أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة ، فحرسها الله سبحانه ببعثة رسوله صلىاللهعليهوسلم بالشّهب المحرقة ، وهو معنى قوله : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي : أرصد له ليرمى به ، أو لأجله لمنعه من السماع ، وقوله : (الْآنَ) هو ظرف للحال ، واستعير للاستقبال ، وانتصاب «رصدا» على أنه صفة ل «شهابا» ، أو مفعول له ، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس.
__________________
(١). يونس : ٢٧.