في هذا الموضع عطفا على «فآمنا به» بذلك التقدير السابق ، واتفقوا على الفتح في (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) كما اتفقوا على الفتح في (أَنَّ الْمَساجِدَ) وفي (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) واتفقوا على الكسر في (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا) و (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) و (قُلْ إِنْ أَدْرِي) و (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ). والجدّ عند أهل اللغة : العظمة والجلال ، يقال : جدّ في عيني : أي عظم ، فالمعنى : ارتفعت عظمة ربنا وجلاله ، وبه قال عكرمة ومجاهد. وقال الحسن : المراد تعالى غناه ، ومنه قيل للحظ : جدّ ، ورجل مجدود ، أي : محظوظ ، وفي الحديث : «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» ، قال أبو عبيد والخليل : أي لا ينفع ذا الغنى منك الغنى ، أي : إنما تنفعه الطاعة ، وقال القرظيّ والضحاك : جدّه : آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش : ملكه وسلطانه. وقال السدّي : أمره. وقال سعيد بن جبير : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي : تعالى ربنا ، وقيل : جدّه قدرته. وقال محمد بن عليّ بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع بن أنس : ليس لله جدّ ، وإنما قالته الجنّ للجهالة. قرأ الجمهور : (جَدُّ) بفتح الجيم ، وقرأ عكرمة وأبو حيوة ومحمد بن السّميقع بكسر الجيم ، وهو ضدّ الهزل ، وقرأ أبو الأشهب : جدا ربّنا أي : جدواه ومنفعته. وروي عن عكرمة أيضا أنه قرأ بتنوين جد ورفع ربنا على أنه بدل من جدّ. (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) هذا بيان لتعالي جدّه سبحانه. قال الزجاج : تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا ، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد ، ونزّهوا الله سبحانه عنهما (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) الضمير في أنه للحديث أو الأمر ، و «سفيهنا» يجوز أن يكون اسم كان ، و «يقول» الخبر ، ويجوز أن يكون «سفيهنا» فاعل يقول : والجملة خبر كان ، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث أو الأمر. ويجوز أن تكون كان زائدة ، ومرادهم بسفيههم : عصاتهم ومشركوهم. وقال مجاهد وابن جريج وقتادة : أرادوا به إبليس ، والشطط : الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك : الجور ، وقال الكلبي : الكذب ، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحدّ ، ومنه قول الشاعر :
بأيّة حال حكّموا فيك فاشتطّوا |
|
وما ذاك إلّا حيث يمّمك الوخط (١) |
(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : إنا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكا وصاحبة وولدا ، فلذلك صدّقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن ؛ فعلمنا بطلان قولهم ، وبطلان ما كنّا نظنّه بهم من الصّدق ، وانتصاب كذبا على أنه مصدر مؤكد ليقول ؛ لأنّ الكذب نوع من القول ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : قولا كذبا. وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق (أَنْ لَنْ تَقُولَ) من التقوّل ، فيكون على هذه القراءة كذبا مفعول به (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) قال الحسن وابن زيد وغيرهما : كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، فنزلت هذه الآية. قال مقاتل : كان أوّل من تعوّذ بالجنّ
__________________
(١). «يممك» : قصدك. «الوخط» : الطعن بالرمح ، والشيب.