وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة كما يدخل عصاتهم النار ؛ لقوله في سورة تبارك : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (١) وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) وغير ذلك من الآيات ، فقال الحسن : يدخلون الجنة ، وقال مجاهد : لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. والأوّل أولى ؛ لقوله في سورة الرّحمن : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٢) وفي سورة الرّحمن آيات غير هذه تدلّ على ذلك ، فراجعها ، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلا منهم ، بل الرسل جميعا من الإنس ، وإن أشعر قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) بخلاف هذا ، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز ؛ دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلا من بني آدم ، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول ، والمراد الإشارة بأخصر عبارة. (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي : قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، أي : سمعنا كلاما مقروءا عجبا في فصاحته وبلاغته ، وقيل : عجبا في مواعظه ، وقيل : في بركته ، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة ، أو على حذف المضاف ، أي : ذا عجب ، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي : معجبا (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي : إلى مراشد الأمور ، وهي الحقّ والصواب ، وقيل : إلى معرفة الله ، والجملة صفة أخرى للقرآن (فَآمَنَّا بِهِ) أي : صدّقنا به بأنه من عند الله (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) من خلقه ، ولا نتخذ معه إلها آخر ؛ لأنه المتفرّد بالربوبية ، وفي هذا توبيخ للكفّار من بني آدم ؛ حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّة واحدة ، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه ، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله ، وآمنوا به ، ولم ينتفع كفّار الإنس ؛ لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعدّدة وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة ؛ مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم ، لا جرم صرعهم الله أذلّ مصرع ، وقتلهم أقبح مقتل ، ولعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وحفص وعلقمة ويحيى بن وثّاب والأعمش وخلف والسّلمي (وَأَنَّهُ تَعالى) بفتح أنّ ، وكذا قرءوا فيما بعدها ممّا هو معطوف عليها ، وذلك أحد عشر موضعا إلى قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلا في قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) فإنهم اتفقوا على الفتح ، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع ، فعلى العطف على محل الجار والمجرور في (فَآمَنَّا بِهِ) كأنه قيل : فصدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا إلخ ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على إنا سمعنا ، أي : فقالوا : إنا سمعنا قرآنا ، وقالوا : إنه تعالى جدّ ربنا إلى آخره. واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة الكسر ؛ لأنه كلّه من كلام الجنّ ، وممّا هو محكيّ عنهم بقوله : «فقالوا إنا سمعنا». وقرأ أبو جعفر وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع ، وهي : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) قالا : لأنه من الوحي ، وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجن. وقرأ الجمهور : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) بالفتح لأنه معطوف على قوله : «أنه استمع». وقرأ نافع وابن عامر وشيبة وزرّ بن حبيش وأبو بكر والمفضّل عن عاصم بالكسر
__________________
(١). الملك : ٥.
(٢). الرّحمن : ٥٦.