كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقّا وسطيحا إلخ ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ، ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان ، فيخلطون الصّدق بالكذب ، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) (١) ونحوها من الآيات ، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة ، وأنه كان طريقا لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين ؛ حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا : (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ـ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٢) فباب الكهانة في الوقت الّذي كانت فيه مخصوص بأدلته ، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم ، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الّذي أورده فحديث خرافة ، ولو سلّم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث : «إن في هذه الأمة محدّثين وإن منهم عمر» ، فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها ، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه ؛ فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن ، فيقال له : ما هذه بأوّل زلّة من زلاتك ، وسقطة من سقطاتك ، وكم لها لديك من أشباه ونظائر ، نبض بها عرق فلسفتك ، وركض بها الشيطان الّذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك ، يا عجبا لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجبا لتطرّق الطعن إلى القرآن؟! وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشّم |
|
س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهبّ رياح سدّه بجناح |
|
وقابل بالمصباح ضوء صباح |
فإن قلت : إذن قد تقرّر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه ، فهل للرسول الّذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت : نعم ولا مانع من ذلك. وقد ثبت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسّنّة المطهرة ، فمن ذلك ما صحّ أنه قام مقاما أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة ، وما ترك شيئا ممّا يتعلّق بالفتن ونحوها ، حفظ ذلك من حفظه ، ونسيه من نسيه ، وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما يحدث من الفتن بعده ، حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه. وثبت في الصحيح وغيره «أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر ، فقال : إن بينك وبينها بابا ، فقال عمر : هل يفتح أو يكسر؟ فقال : بل يكسر ، فعلم عمر أنه الباب ، وأن كسره قتله» كما في الحديث الصحيح المعروف ؛ أنه قيل لحذيفة : هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال : نعم كان يعلم أن دون غد الليلة. وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذرّ بما يحدث
__________________
(١). الصافات : ١٠.
(٢). الجن : ٨ ـ ٩.