أشرف أوقاته وأطيبها ، وأضافه إلى السماء لأنه يظهر بظهور الشمس ، وهي منسوبة إلى السماء (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي : بعد خلق السماء ، ومعنى دحاها : بسطها ، وهذا يدلّ على أن خلق الأرض بعد خلق السماء ، ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدّم في سورة فصلت من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (١) بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أوّلا غير مدحوّة ثم خلق السماء ثم دحا الأرض ، وقد قدّمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك ، وقدّمنا أيضا بحثا في هذا في أوّل سورة البقرة عند قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢) وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع كما في قوله : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٣) ؛ وقيل : بعد بمعنى قبل كقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) (٤) أي : من قبل الذكر. والجمع الّذي ذكرناه أولى ، وهو قول ابن عباس وغير واحد ، واختاره ابن جرير. يقال : دحوت الشيء أدحوه ؛ إذا بسطته ، ويقال لعشّ النعامة : أدحي ، لأنه مبسوط على الأرض ، وأنشد المبرد :
دحاها فلمّا رآها استوت |
|
على الماء أرسى عليها الجبالا |
وقال أمية بن أبي الصّلت :
وبثّ الخلق فيها إذ دحاها |
|
فهم قطّانها حتّى التّنادي |
وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت |
|
له الأرض تحمل صخرا ثقالا |
دحاها فلمّا استوت شدّها |
|
بأيد وأرسى عليها الجبالا |
قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال ، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السّمّال وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي : فجّر من الأرض الأنهار والبحار والعيون (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ـ وَمَرْعاها) أي : النبات الّذي يرعى ، ومرعاها مصدر ميميّ ، أي : رعيها ، وهو في الأصل موضع الرعي ، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها ؛ لأنّ السّكنى لا تتأتى بمجرّد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب. وإما في محل نصب على الحال (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي : أثبتها في الأرض وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقرّ وأن لا تميد بأهلها. قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وأبو حيوة وأبو السّمّال وعمرو بن عبيد ونصر ابن عاصم بالرفع على الابتداء ، قيل : ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي : منفعة لكم ولأنعامكم من البقر والإبل والغنم ، وانتصاب «متاعا» على المصدرية ، أي : متعكم بذلك متاعا ، أو هو مصدر من غير لفظه ، لأن قوله : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) بمعنى متع بذلك ، أو على أنه مفعول له ، أي : فعل ذلك لأجل
__________________
(١). فصلت : ١١.
(٢). البقرة : ٢٩.
(٣). القلم : ١٣.
(٤). الأنبياء : ١٠٥.