رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة والرونق ، والخطاب لكلّ راء يصلح لذلك ، يقال : أنضر النبات ؛ إذا أزهر ونوّر. قال عطاء : وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف. قرأ الجمهور : «تعرف» بفتح الفوقية وكسر الراء ، ونصب نضرة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وطلحة وابن أبي إسحاق بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول ، ورفع «نضرة» بالنيابة (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج : الرحيق من الخمر ما لا غشّ فيه ولا شيء يفسده ، والمختوم : الّذي له ختام. وقال الخليل : الرحيق أجود الخمر. وفي الصحاح : الرحيق : صفرة الخمر. وقال مجاهد : هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية ، ومنه قول حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم |
|
بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل |
قال مجاهد (مَخْتُومٍ) مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين ، ويكون المعنى : أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار. قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي : ختامه : آخر طعمه ، وهو معنى قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) أي : آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل : مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطين ، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته. والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره ، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه كما تختم الأشياء بالطين ونحوه. قرأ الجمهور : «ختامه» وقرأ عليّ وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي «خاتمه» بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قال علقمة : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكا ، أي : آخره ، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر ، كذا قال الفراء قال في الصحاح : والختام الطين الّذي يختم به ، وكذا قال ابن زيد. قال الفرزدق :
وبتن بجانبي مصرّعات |
|
وبت أفضّ أغلاق الختام |
(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي : فليرغب الراغبون ، والإشارة بقوله : «ذلك» إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة ، وقيل : إن «في» بمعنى إلى : أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل كما في قوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (١) وأصل التنافس : التشاجر على الشيء والتنازع فيه ؛ بأن يحبّ كل واحد أن يتفرّد به دون صاحبه ، يقال : نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة : أي ظننت به ولم أحبّ أن يصير إليه. قال البغوي : أصله من الشيء النفيس الّذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه ، وينفس به على غيره ، أي : يضن به. قال عطاء : المعنى فليستبق المستبقون. وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون ، وقوله : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) معطوف على (خِتامُهُ مِسْكٌ) صفة أخرى لرحيق ، أي : ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم ، وهو شراب ينصبّ عليهم من علو ، وهو أشرف شراب الجنة ، وأصل التسنيم في اللغة : الارتفاع ، فهي عين ماء تجري من علوّ إلى أسفل ، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه ، ومنه تسنيم
__________________
(١). الصافات : ٦١.