وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود ، ووعد خير لمن عذّبوه على دينه من أولئك المؤمنين. ثم بيّن سبحانه ما أعدّ لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي : حرقوهم بالنار ، والعرب تقول : فتنت الشيء ، أي : أحرقته ، وفتنت الدرهم والدينار ؛ إذا أدخلته النار لتنظر جودته. ويقال : دينار مفتون ، ويسمّى الصائغ : الفتان ، ومنه قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١) أي : يحرقون ، وقيل : معنى فتنوا المؤمنين : محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه ، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم ، فلهم عذاب جهنم ، أي : لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم ، والجملة في محل رفع على أنها خبر إن ؛ أو الخبر : لهم ، وعذاب جهنم مرتفع به على الفاعلية ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، ولا يضرّ نسخه بأنّ ، خلافا للأخفش ، (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) ي : ولهم عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم ، وهو عذاب الحريق الّذي وقع منهم للمؤمنين ، وقيل : إن الحريق اسم من أسماء النار ك السعير ، وقيل : إنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير ثم يعذبون بعذاب الحريق ؛ فالأوّل : عذاب ببردها ، والثاني : عذاب بحرّها. وقال الربيع بن أنس : إن عذاب الحريق أصيبوا به في الدنيا ، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم ، وبه قال الكلبي. ثم ذكر سبحانه ما أعدّ للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وظاهر الآية العموم ، فيدخل في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولا أوّليا ، والمعنى : أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح جنات متصفة بهذه الصفة. وقد تقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع ، وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار فجرى الأنهار من تحتها واضح ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر لأنها ساترة لساحتها ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره مما أعدّه الله لهم ، أي : ذلك المذكور (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الّذي : لا يعدله فوز ولا يقاربه ولا يدانيه ، والفوز : الظفر بالمطلوب ، وجملة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) مستأنفة لخطاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم مبينة لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه ، والمغفرة لمن أطاعه ، أي : أخذه للجبابرة والظلمة شديد ، والبطش : الأخذ بعنف ، ووصفه بالشدّة يدل على أنه قد تضاعف وتفاقم ، ومثل هذه قوله : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٢) (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي : يخلق الخلق أوّلا في الدنيا ويعيدهم أحياء بعد الموت. كذا قال الجمهور ، وقيل : يبدئ للكفار عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده لهم في الآخرة ، واختار هذا ابن جرير ، والأوّل أولى (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) أي : بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها ، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه. قال مجاهد : الوادّ لأوليائه ، فهو فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد : معنى الودود الرّحيم. وحكى المبرد عن إسماعيل القاضي أن الودود هو الّذي لا ولد له ، وأنشد :
__________________
(١). الذاريات : ١٣.
(٢). هود : ١٠٢.