ناراً تَلَظَّى) أي : حذّرتكم وخوّفتكم نارا تتوقد وتتوهج ، وأصله تتلظّى فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ على الأصل عبيد بن عمير ويحيى بن يعمر وطلحة بن مصرّف (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) أي : يصلاها صليا لازما على جهة الخلود إلا الأشقى وهو الكافر ، وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه ، والمراد بقوله : (يَصْلاها) : يدخلها أو يجد صلاها ، وهو حرّها. ثم وصف الأشقى فقال : (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : كذّب بالحق الّذي جاءت به الرسل وأعرض عن الطاعة والإيمان. قال الفراء (إِلَّا الْأَشْقَى) إلا من كان شقيا في علم الله جلّ ثناؤه. قال أيضا : لم يكن كذب بردّ ظاهر ، ولكن قصّر عمّا أمر به من الطاعة فجعل تكذيبا ، كما تقول : لقي فلان العدوّ فكذب ؛ إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال الزجاج : هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء ، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر ؛ ولأهل النار منازل ، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. والله سبحانه كلّ ما وعد عليه بجنس من العذاب ؛ فجدير أن يعذّب به ، وقد قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) فلو كان كلّ من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فائدة. وقال في الكشاف : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل : الأشقى ، وجعل مختصّا بالصّلى ؛ كأن النار لم تخلق إلّا له ، وقيل : الأتقى ، وجعل مختصّا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف ، وبالأتقى أبو بكر الصدّيق ، ومعنى (سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) سيباعد عنها المتقي للكفر اتقاء بالغا. قال الواحدي : الأتقى أبو بكر الصدّيق في قول جميع المفسرين ، انتهى. والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متّصف بالصفتين المذكورتين ، ويكون المعنى أنه لا يصلاها صليا تاما لازما إلا الكامل في الشقاء وهو الكافر ، ولا يجنّبها ويبعد عنها تبعيدا كاملا بحيث لا يحوم حولها فضلا عن أن يدخلها إلا الكامل في التقوى ، فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولا غير لازم ، ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيدا غير بالغ مبلغ تبعيد الكامل في التقوى عنها. والحاصل أن من تمسك من المرجئة بقوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) زاعما أن الأشقى الكافر ، لأنّه الّذي كذّب وتولّى ، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين ، فيقال له : فما تقول في قوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فإنه يدلّ على أنه لا يجنب النار إلا الكامل في التقوى ، فمن لم يكن كاملا فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار ، فإن أوّلت الأتقى بوجه من وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى فخذ إليك هذه مع تلك ، وكن كما قال الشاعر :
على أنّني راض بأن أحمل الهوى |
|
وأخرج منه لا عليّ ولا ليه |
وقيل : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي ، كما قال طرفة بن العبد :
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت |
|
فتلك سبيل لست فيها بأوحد |
__________________
(١). النساء : ٤٨.