ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد. قال الزجاج : نفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل. وقيل : إن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال ، ولكنّا نخصّ أحدهما بالحال ، والثاني بالاستقبال دفعا للتكرار. وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف ، فإن جعل قوله : ولا أعبد ما تعبدون للاستقبال. وإن كان صحيحا على مقتضى اللغة العربية ، ولكنه لا يتمّ جعل قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) للاستقبال ؛ لأن الجملة اسمية تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام ، والثبات في كل الأوقات ، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحا للزم مثله في قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وفي قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فلا يتمّم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال ، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس ؛ لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية ، مصدّرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها ، مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد ، وهو لفظ لا في كل واحد منها ، فكيف يصحّ القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة. وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال ، فهو إقرار منه بالتكرار ؛ لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الّذي لا يدلّ عليه دليل. وإذا تقرّر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التي لا تجحد ، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا ، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا ، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب ، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع فيه. وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشكّ فيه شاكّ ، ولا يرتاب فيه مرتاب ، فهو مستغن عن التطويل ، غير محتاج إلى تكثير القال والقيل. وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن ، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرّحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يتأتى عليه الحصر ، ومن ذلك قول الشاعر (١) :
يا لبكر أنشروا لي كليبا |
|
يا لبكر أين أين الفرار؟ |
وقول الآخر :
هلّا سألت جموع كندة |
|
يوم ولّوا أين أينا |
وقول الآخر :
يا علقمه يا علقمه يا علقمه |
|
خير تميم كلّها وأكرمه |
وقول الآخر :
ألا يا اسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي |
|
ثلاث تحيّات وإن لم تكلّم |
__________________
(١). هو المهلهل بن ربيعة.