المتدبر في بديع صنعه وعجائب مخلوقاته. وفي سياق هذه الآيات تذكير لمنكري البعث وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة ، وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه ، فإن القادر على مثل هذه الأمور يقدر عليه ، وهكذا قوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي : نزّلنا من السحاب ماء كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أي : أنبتنا بذلك الماء بساتين كثيرة (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي : ما يقتات ويحصد من الحبوب ، والمعنى : وحبّ الزرع الحصيد ، وخصّ الحبّ لأنه المقصود ، كذا قال البصريون. وقال الكوفيون : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع ، حكاه الفرّاء. قال الضحاك : حبّ الحصيد : البرّ والشعير ، وقيل : كل حبّ يحصد ويدّخر ويقتات (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) هو معطوف على جنات ؛ أي : وأنبتنا به النخل ، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على سائر الأشجار ، وانتصاب باسقات على الحال ، وهي حال مقدّرة لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة. قال مجاهد وعكرمة وقتادة : الباسقات : الطوال ، وقال سعيد بن جبير : مستويات. وقال الحسن وعكرمة والفراء : مواقير حوامل ، يقال للشاة بسقت إذا ولدت ، والأشهر في لغة العرب الأوّل ، يقال : بسقت النخلة بسوقا ؛ إذا طالت ، ومنه قول الشاعر :
لنا خمر وليست خمر كرم |
|
ولكن من نتاج الباسقات |
كرام في السّماء ذهبن طولا |
|
وفات ثمارها أيدي الجناة |
وجملة (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) في محل نصب على الحال من النخل ، والطلع : هو أوّل ما يخرج من ثمر النخل ، يقال : طلع الطّلع طلوعا. والنّضيد : المتراكب الّذي نضّد بعضه على بعض ، وذلك قبل أن ينفتح فهو نضيد في أكمامه ، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد (رِزْقاً لِلْعِبادِ) انتصابه على المصدرية ، أي : رزقناهم رزقا ، أو على العلّة ، أي : أنبتنا هذه الأشياء للرزق (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي : أحيينا بذلك الماء بلدة مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع ، وجملة (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الّذي أحيا الله به الأرض الميتة ، قرأ الجمهور (مَيْتاً) على التخفيف ، وقرأ أبو جعفر وخالد بالتثقيل. ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) هم قوم شعيب كما تقدّم بيانه ، وقيل : هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى ، وهم من قوم عيسى. وقيل : هم أصحاب الأخدود. والرسّ : إما موضع نسبوا إليه ، أو فعل ، وهو حفر البئر ، يقال : رس ؛ إذا حفر بئرا (وَثَمُودُ ـ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) أي : فرعون وقومه (وَإِخْوانُ لُوطٍ) جعلهم إخوانه لأنهم كانوا أصهاره ، وقيل : هم من قوم إبراهيم ، وكانوا من معارف لوط (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) تقدّم الكلام على الأيكة ، واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء مستوفى ، ونبيهم الّذي بعثه الله إليهم شعيب (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) هو تبّع الحميري الّذي تقدّم ذكره في قوله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) واسمه سعد أبو كرب ، وقيل : أسعد. قال قتادة : ذمّ الله قوم تبع ، ولم يذمّه. (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) التنوين عوض عن المضاف إليه ؛ أي : كل واحد من هؤلاء كذّب رسوله الّذي أرسله الله إليه ، وكذب ما جاء به من الشرع ، واللام في الرسل تكون للعهد ،