والعامل في الظرف مقدّر ، أي : أيبعثنا ، أو أنرجع إذا متنا لدلالة ما بعده عليه ، هذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة الثانية فجواب إذا محذوف ، أي : رجعنا ، وقيل : ذلك رجع ، والمعنى : استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم ترابا. ثم جزموا باستبعادهم للبعث فقالوا : (ذلِكَ) أي : البعث (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي : بعيد عن العقول أو الأفهام أو العادة أو الإمكان ، يقال : رجعته أرجعه رجعا ، ورجع هو يرجع رجوعا. ثم ردّ سبحانه ما قالوه فقال : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : ما تأكل من أجسادهم فلا يضلّ عنّا شيء من ذلك ، ومن أحاط علمه بشيء حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث ولا يستبعد منه ، وقال السدّي : النقص هنا الموت ، يقول : قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى ؛ لأنّ من مات دفن ، فكأن الأرض تنقص من الأموات ، وقيل : المعنى : من يدخل في الإسلام من المشركين ، والأوّل أولى (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي : حافظ لعدّتهم وأسمائهم ولكلّ شيء من الأشياء ، وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : المراد بالكتاب هنا العلم والإحصاء ، والأوّل أولى. وقيل : حفيظ بمعنى محفوظ ، أي : محفوظ من الشياطين ، أو محفوظ فيه كل شيء. ثم أضرب سبحانه عن كلامهم الأوّل ، وانتقل إلى ما هو أشنع منه ، فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) فإنه تصريح منهم بالتكذيب بعد ما تقدّم عنهم من الاستبعاد ، والمراد بالحق هنا القرآن. قال الماوردي : في قول الجميع ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : محمد ، وقيل : النبوّة الثابتة بالمعجزات (لَمَّا جاءَهُمْ) أي : وقت مجيئه إليهم من غير تدبّر ولا تفكّر ولا إمعان نظر ، قرأ الجمهور : بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ الجحدري : بكسر اللام وتخفيف الميم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي : مختلط مضطرب ، يقولون مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن ؛ قاله الزجاج وغيره. وقال قتادة : مختلف. وقال الحسن : ملتبس ، والمعنى متقارب ، وقيل : فاسد ، والمعاني متقاربة. ومنه قولهم : مرجت أمانات الناس : أي فسدت ، ومرج الدين والأمر اختلط (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) أي : الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي كيف غفلوا عن النظر إلى السماء فوقهم (كَيْفَ بَنَيْناها) وجعلناها على هذه الصفة مرفوعة بغير عماد تعتمد عليه (وَزَيَّنَّاها) بما جعلنا فيها من المصابيح (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي : فتوق وشقوق وصدوع ، وهو جمع فرج ، ومنه قول امرئ القيس :
تسدّ به فرجها من دبر (١)
قال الكسائي : ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الرعد (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي : من كل صنف حسن. وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الحج (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) هما علّتان لما تقدّم منتصبان بالفعل الأخير منها ، أو بمقدّر ، أي : فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير ، قاله الزجاج. وقال أبو حاتم : انتصبا على المصدرية ، أي : جعلنا ذلك تبصرة وذكرى. والمنيب الراجع إلى الله بالتوبة ،
__________________
(١). وصدره : لها ذنب مثل ذيل العروس.