__________________
قال العلامة ابن خلدون في مقدمة تاريخه في الفصل الذى عقده للبحث عن صناعة الغناء : ان الاصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك ، والتناسب فيها هو الذى يوجب لها الحسن ، فأولا ألا يخرج من الصوت إلى ضده دفعة بل بتدريج ثم يرجع كذلك وهكذا إلى المثل بل لابد من توسط المغاير بين الصوتين ... فاذا كانت الاصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة.
ومن هذا التناسب ما يكون بسيطا ، ويكون الكثير من الناس مطبوعين عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة ، كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتسمى هذه القابلية المضمار ، وكثير من القراء بهذه المثابة : يقرؤن القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كانها المزامير ، فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم.
ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب ، وليس كل الناس يستوى في معرفته ، ولاكل الطباع توافق صاحبها في العمل به اذا علم ، وهذا هو التلحين الذى يتكفل به علم الموسيقى وهى تلحين الاشعار الموزونة بتقطيع الاصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع على كل صوت منها توقيعا عند قطعه فتكون نغمة ، ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لاجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الاصوات.
وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات اما بالقرع أو بالنفخ في الالات تتخذ لذلك فيزيدها لذة السماع كالشبابة والمزمار والزلامى ـ أو الزنامى ـ والبوق والبربط والرباب والقانون وغير ذلك.
ولا يستدعى هذه الصناعة الا من فرغ عن جميع حاجاته الضرورية والمهمة ولا يطلبها الا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات ، وقد كان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم ، وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به.