الإمام حين كان يُطيل سجوده وبكاءه علىٰ التراب الذي احتفظ به من ثرىٰ قبر والده ومسحه بخاتمه الذي أصرّ علىٰ لبسه والمحافظة عليه مع الشعار المنقوش عليه والذي كان يردده عليهالسلام : « خزي وشقي قاتل الحسين بن علي » (١) ، تكون رسالة البكاء أكثر تعبيراً وأمضىٰ أثراً في إذكاء الوجدان المعذّب والضمير الحي وتفجيرهما ضد الظلم والظالمين.
٥ ـ أما حين يمتزج البكاء مع الدعاء ، الذي سنأتي علىٰ ذكره ، وتتكامل لوحة الرفض المقدّس عبر العاطفة والفكر ، وعبر العقل والقلب ، يكون الهدف من البكاء أكثر تجليّاً وسطوعاً ، وهذا ما كان يُلاحظ عند الإمام عليهالسلام وهو يخرُّ ساجداً علىٰ حجارة خشنة في الصحراء يوماً ويشهق شهيقاً مرّاً مردّداً : « لا إله إلّا الله حقاً حقّا.. لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّا.. لا إله إلّا الله إيماناً وصدقا.. » ثمّ يرفع رأسه وإذا بلحيته ووجهه مخضبان بدموع عينيه ، فيقول له أحد أصحابه : أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقلّ ؟! ويأتيه الجواب المارّ الذكر ، ليكون دالّة معبّرة عن حزنٍ ليس كمثله حزن ، وبكاء ليس كمثله بكاء...
إنّه بوضوحٍ كاملٍ حزنٌ علىٰ رمزٍ مقدّس بكت عليه أهل الأرض وملائكة السماء ، وليس حزن ولدٍ علىٰ أبيه قط ، وإنه حزنٌ علىٰ فجيعةٍ بدين ، أي أنّه حزن علىٰ دين مضيّع صيّره الصبيان لعبةً يعبث بها غلمان بني أمية ، ودمية تتلاقفها أكفُّ أحفاد أبناء الطلقاء...
إنّه باختصار شديد ، رسالة صامتة شديدة اللهجة ، ودموع حرّىٰ ناطقة ، وبيان صارخ مشحون بعواطف البكاء النبيلة ممزوجة بثرىٰ تراب طاهر ، مشفوعاً بتأوّهات خالصة أرادت وتريد أن تواجه الظالم بأفصح
_______________________
(١) الكافي ٦ : ٤٧٤ / ٦ ، عيون اخبار الرضا ٢ : ٥٦.