فنقول : قضيّة ما أشرنا إليه سابقا (١) من كون الأحكام عبارة عن الامور الفعليّة ، انطباق الحدّ على الجهة الثانية إذ لا فعليّة إلاّ مع التعلّق فهو المأخوذ في مسمّى المحدود ، وكذلك بناء على أخذ « الأحكام » بمصطلح الاصولي ، كما عليه مبنى كلام الأشاعرة أيضا بقرينة التعلّق المأخوذ في مفهومه بهذا المعنى ، فما عليه الأشاعرة من جعل الكتاب دليلا على الكلام النفسي المنطبق على الاولى من الجهتين أجنبيّ عن هذا الحدّ والمحدود ، إلاّ إذا انفردوا في الاصطلاح فلا مشاحّة ، أو التزموا الدليليّة من الجهة الثانية ، بدعوى : أنّ المعنى القائم بالنفس له جهتان : جهة قيامه الّذي محلّه من هذه الجهة نفس المتكلّم ، وجهة تعلّقه الّذي محلّه من هذه الجهة فعل المكلّف ، و « الفقه » عبارة عندنا عن العلم بالمعاني القائمة بنفس الشارع من حيث تعلّقها بالمكلّفين ، لا من حيث قيامها بنفس الشارع فقط ، فلا محذور.
ومنها : أنّه لو كان الحكم عبارة عن الكلام النفسي ، المفسّر بالمعنى القائم بالنفس ، الّذي ليس في الإنشائيّات إلاّ الطلب المشار إليه في حدّ « الحكم » بلفظ « الاقتضاء » لزم أحد الأمرين ، من تعدّد القدماء أو السفه ، واللازم بكلا قسميه باطل ، وأيضا لزم بالقياس إلى الصبيّ والمجنون والنائم إمّا تكليف ما لا يطاق ، أو تغيّر القديم ، وهذان اللازمان أيضا باطلان.
أمّا الملازمة الاولى ؛ فلقولهم بقدم الكلام النفسي ، فإذا كان الطلب قديما وهو يقتضي مطلوبا منه ، فإن فرض تحقّق المطلوب منه معه في جميع انات وجوده يلزم المحذور الأوّل ، وإن فرض انفكاكه عنه يلزم المحذور الثاني ، لأنّ التكليف بلا مكلّف سفه ، وقد يقرّر من غير جهة السفهيّة وهو أنّ الطلب أمر نسبي لا يتعقّل ولا يتحقّق إلاّ بتعقّل وتحقّق منتسبيه الطالب والمطلوب منه ، فإن فرض معه المطلوب منه موجودا مطلقا لزم تعدّد القدماء ، وإلاّ لزم تحقّق الأمر النسبي بدون أحد المنتسبين وهو محال.
__________________
(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٤ ، الصفحة ٤٣.