ويقبل عليّ بالحديث ، وجعلوا (١) لا يشكّون أن ذلك منه لي عن معرفة متقدمة ، وإنما ذلك الفعل كان منه لما ظن أني منهما بسبيل ، حتى إذا شربنا أقداحا خرجت علينا جارية ـ يا أمير المؤمنين ـ كأنها غصن بان تتثنى ، فأقبلت تمشي ، فسلّمت غير خجلة ، وثنيت لها وسادة فجلست وأتي بعود فوضع في حجرها ، فجسّته ، فاستنبأت في جسّها حذقها ثم اندفعت تغنّي وتقول (٢) :
توهّمها طرفي فأصبح خدّها (٣) |
|
وفيه مكان الوهم من نظري أثر |
وصافحها قلبي فآلم كفّها |
|
فمن مسّ قلبي في أناملها عقر (٤) |
فهيّجت ـ يا أمير المؤمنين ـ بلابلي ، وطربت بحسن شعرها وحذقها ، ثم اندفعت تغنّي :
أشرت إليها : هل عرفت مودّتي؟ |
|
فردّت بطرف العين : إني على العهد |
فحدت عن الإظهار عمدا لسرّها |
|
وحادت عن الإظهار أيضا على عمد (٥) |
فصحت : السلامة ، يا أمير المؤمنين ، وجاءني من الطّرب ما لم أملك نفسي ، ثم اندفعت تغنّي الصوت الثالث :
أليس عجيبا أن بيتا يضمّني |
|
وإيّاك لا نخلو ولا نتكلم |
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها |
|
وتقطيع (٦) أنفاس على الناي تضرم |
إشارة أفواه وغمز حواجب |
|
وتكسير أجفان وكفّ تسلّم |
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها وإصابتها معنى الشعر ، أنها لم تخرج من
__________________
(١) عند المسعودي : والرجلان لا يشكان.
(٢) الأبيات لأبي نواس ديوانه ص ٧٣٠ والأغاني ٥ / ٢٢٨ ومروج الذهب ٤ / ١٣.
(٣) صدره في الديوان :
توهمه قلبي فأصبح خده
(٤) في الديوان :
وصافحه قلبي فآلم كفه |
|
فمن غمز قلبي في أنامله عقر |
وقبله في الديوان :
ومرّ بفكري خاطرا فجرحته |
|
ولم أر جسما قط يجرحه الفكر |
(٥) مروج الذهب ٤ / ١٣.
(٦) في مروج الذهب : وترجيع أحشاء على النار تضرم.