طُليَت هذه المواضعُ منه ، ومنه قول ذي الرمة :
قَرِيعُ هجانٍ دُسَّ منه المَسَاعِرُ*
فإذا عُمَّ جسدُ البعير كله بالهِناء فذلك التَّدجِيل ، يُضرَب مثلاً للذي لا يُبالِغ في إحكام الأمور ولا يَستوثِق منها ، ويَرضَى باليسير منها.
ثعلب عن ابن الأعرابيّ : تهنَّأَ فلانٌ ، إذا كَثُر عَطاؤُه ، مأخوذٌ من الهِنْء ، وهو العطاء الكثير.
وقال ابن شميل : قال الخليل في قول الأعشى :
لا تَهَنَّا ذِكرَى جُبَيْرةَ أَمَّنْ |
جاء منها بطائفِ الأهوال |
قال : يقول : لا تُجَمْجِمُ عن ذِكرها ، لأنه يقول : قد فعلتُ وهنَيْتُ ، فتُجَمْجِم عن شيء ، فهو من هنَيْتُ ، وليس بأَمْر ، ولو كان أَمراً كان جَزْماً ، ولكنه خبر. يقول : أَنت لا تَهْنَا ذِكْرَها.
قلتُ : وقال غيرُ الخليل في قولهم : «لاتَ هنَّا» : «لاتَ» حرف ، و «هنَّا» كلمة أُخرى.
وأَنشد الأصمعيّ :
لات هَنَّا ذِكرَى جُبَيْرة*
البيت ، يقول : ليس جُبيرةُ حيثُ ذهبْتَ ، ايأَسْ منها ، ليس هذا بموضع ذِكرها.
قال : وقولُه :
.... أَمَّنْ |
جاء منها بطائفِ الأهوالِ |
يَستفهم ، يقول : مَن الذي دَلَّ خيالها علينا؟ وقال الراعي :
نعمْ لاتَ هَنَّا إنَّ قلْبَك مِتْيَحُ*
يقول : ليس الأمرُ حيث ذهبتَ ، إنما قلبُك مِتيحٌ في غير ضَيعة.
وقال أبو عبيد : من أَمثال العرب : «حَنَّتْ ولاتَ هَنَّت» ، وأَنَّى لك مقروع.
قال : يُضرَب مَثَلاً لمن يُتهَم في حديثه ولا يُصدَّق ، قاله مازن بنُ مالك بن عمرو ابن تميم لابنة أخيه الهَيْجُمانة بنت العَنْبر بن عَمْرِو بن تميم حين قالت لأبيها : إنّ عبد شمس بن سعد بن زيد مَناةَ يريد أن يُغِير عليهم فاتهمها مازِن ، لأنّ عبدَ شمسٍ كان يَهْوَاها وتهْوَاه ، يقال هذه المقالة ، وقوله : عَنَّت أي حَنَّت إلى عبد شمس ونزَعَتْ إليه وقوله : ولاتَ هَنَّتْ : أي ليس الأمرُ حيثُ ذهبَتْ.
وقال شمر : سمعتُ ابنَ الأعرابيّ يقول في قول مازِن : حَنَّت ولاتَ هَنَّتْ ، يقول : حَنّت إلى عاشقها ، وليس أوانَ حَنين ، وإنما هُوَ وَلَا ، والهاءُ صلة جُعِلْت تاءً ، ولو وقَفتَ عليها لقلتَ : لَاهْ في القياس ، ولكن يَقِفون عليها بالتاء.
قال ابن الأعرابيّ : وسأَلْتُ الكسائيّ : كيف تَقِف على بنت؟ ، فقال بالتاء اتّباعاً للكتاب ، وهي في الأصل هاء.
قلت : والهاء في قوله : هَنَّتْ كانت هاءَ الوَقْفة ، ثم صُيِّرتْ تاءً ليُزاوِجُوا به حَنّت.
والأصل هَنَّا ، ثم قيل في الوقف : هَنّه للوقف ، ثم صُيِّرتْ تاءً.