شدائدها ، وعايش وقائعها حيث كان بخوارزم ، ولما وصل إلى الموصل هاربا ، كتب إلى الوزير في حلب القاضي جمال الدين أبي الحسن القفطي رسالة بليغة طويلة ، يصف فيها حاله ، وحال البلاد التي عدا عليها التتار ، وعاثوا فيها الفساد ، ومن جملة ما فيها : «... إلى أن حدث بخراسان ما حدث من الخراب ، والويل المبير والتّباب ، وكانت لعمر الله بلادا مونقة الأرجاء ، رائعة الأنحاء ، ذات رياض أريضة ، وأهوية صحيحة مريضة ، قد تغنت أطيارها ، فتمايلت طربا أشجارها ، وبكت أنهارها ، فتضاحكت أزهارها ، وطاب روح نسيمها ، فصح مزاج إقليمها ... وجملة أمرها أنها كانت أنموذج الجنة بلامين ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ العين ، قد اشتملت عليها المكارم ، وارجحنّت في أرجائها الخيرات الفائضة للعالم ، فكم فيها من حبر راقت حبره ، ومن إمام توّجت حياة الإسلام سيره ، آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة ، وفضائلهم في محاسن الدنيا والدين محسوبة ... أطفالهم رجال ، وشبابهم أبطال ، ومشايخهم أبدال ، شواهد مناقبهم باهرة ، ودلائل مجدهم ظاهرة ... فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد ، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزّيغ والعناد ، فأصبحت تلك القصور ، كالممحوّ من السطور ، وآضت تلك الأوطان ، مأوى الأصداء والغربان ، تتجاوب في نواحيها البوم ، وتتناوح في أراجيها الريح السّموم ... فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر ، وتهدم العمر ، وتفت في العضد ، وتوهي الجلد ، وتضاعف الكمد ، وتشيب الوليد ... وجملة الأمر أنه لولا فسحة في الأجل ، لعز أن يقال سلم البائس ـ (يقصد ياقوت نفسه) ـ أو وصل ، ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون ، وألحق بألف ألف ألف ألف ألف هالك بأيدي الكفار أو يزيدون ...» (١) انتهى.
فهذه صورة وجيزة صادقة عن حال تلك البلاد قبل خروج التتار ، وما آلت
__________________
(١) وفيات الأعيان ٦ / ١٣٤ ـ ١٣٧.