والظاهر وغيرهما بل توفق إلى مقاصده باستفتاء العلماء بأن ملك مصر وأنقذها من حفيد أخيه صلاح الدين ، وكان أخذه مصر مقدمة لاستيلائه على ملك أخيه إلا قليلا ، ومقدمة لتسلسل الملك في أولاده ، إذ ليس في أبناء أخيه من يدانيه في الحقيقة بحسن السياسة وبعد النظر وكثرة التجارب والدهاء ، وكان صلاح الدين يحبه ويحترمه ويستشيره في معضلات الأمور فيبين عن رأي وحنكة وسار بعض الأمراء الصلاحية الذين غذوا بنعمة صلاح الدين سيرا لا يدل على غمط نعمة ونكران جميل ، ولكن كان الأفضل والظاهر والعزيز متخالفين متشاكسين ، وكل منهم يطمع في الملك ويسر لأخيه وعمه حسوا في ارتغاء ، فكان اختلافهم من حظ عمهم العادل وهو بتجاربه يشبه أخاه صلاح الدين من أكثر الوجوه. أما الأفضل فقد ركب هواه ، وأخلد إلى اللذات والمنكرات لأول مرة واستسلم لوزيره ابن الأثير ، وكان هذا صاحب دعوى عريضة ، لا يراعي الحال ولا يعرف الزمان ، فكتبت الغلبة للعادل ، ولو ترك الأخوان الأفضل والظاهر وشأنهما بدون أن يعدّل عمهما من جماحهما لاشتد غزو أحدهما لأخيه ، وهلك الناس بسببهما ، وكثرت الغوائل والحصارات ، هذا إن لم نقل إنه كان للعادل يد في توسيع شقة الخلاف بين أولاد أخيه ، فقد اتخذ العادل سياسة غريبة معهم يريد أن يوفق بينهم في الظاهر ولكن انتهى توفيقه بالاستيلاء على مصر والشام وبلاد الشرق ، وذلك بأن أخذ بعض المشاكسين لحزبه وكان بعد ذلك يغتنم فرصة حمل الأخ على أخيه فيملك الولايات على نحو ما ملك مصر ، ويخطب له فيها وتضرب السكة باسمه ويزال اسم أبناء صلاح الدين.
مثل أبناء صلاح الدين صورة من خلاف الإخوة بعد موت أبيهم ، والسبب في ذلك أن أباهم على بعد نظره لم يكتب لهم عهدا يبين لكل واحد حقه من هذا الملك الذي فتحه ووطد أساسه ، بل ترك الأمر للأقدار. وإذا خلف العسكر في دمشق لأكبر أولاده الأفضل فإن المملكة ليست عبارة عن دمشق ، بل حلب والقاهرة تنازعانها فضل التقدم ، ولو كانت أصول الوراثة في الملك متبعة في ذلك العصر لتوفر على الأمة وأبناء الدولة عناء كبير وشر مستطير ، ولما تعب الفاتح بفتوحه وخلف لأبنائه ميراثا يورثه هما وغما ، ويجنون بعملهم على الأمة الجناية بعد الأخرى.