ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور في موضع يعرف بسججان ، فبعث إليّ أن أحضر عنده فركبت إليه ، وكان لي فرس معدّ لركوبي يقوده خديم العربة فإذا أردت ركوبه ركبته ، وأتيت الزاوية فوجدت الأمير قد صنع بها طعاما كثيرا فيه الخبز ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار ، فشرب القوم منه ، وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه ، وأنا إليه فقلت له : ما هذا؟ فقال هذا ماء الدّهن ، فلم أفهم ما قال ، فذقته فوجدت له حموضة فتركته ، فلما خرجت سألت عنه فقالوا : هو نبيذ يصنعونه من حبّ الدوقي ، وهم حنفيّة المذهب والنبيذ عندهم حلال ، ويسمّون هذا النبيذ المصنوع من الدّواقي : البوزة ، (١٦) بضم الباء الموحدة وواو مدّ وزاي مفتوح ، وإنّما قال لي الشيخ مظفر الدين : ماء الدّخن (١٧) ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت إنّه يقول ماء الدّهن. وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلا من مدينة القرم وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يوما (١٨) كاملا ، وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتدّ وحله ، وزاد صعوبة فذهب الأمير إلى راحلتي وقدّمني أمامه مع بعض خدّامه ، وكتب لي كتابا إلى أمير أزاق (١٩) يعلمه أنّي أريد القدوم على الملك ، ويحضّه على إكرامي ، وسرنا حتى انتهينا إلى ماء آخر نخوضه نصف يوم ، سرنا بعده ثلاثا ووصلنا إلى مدينة أزاق ، وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف ، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة ، يقصدها الجنويّون وغيرهم بالتّجارات. وبها من الفتيان أخي بجقجي ، وهو من العظماء يطعم الوارد والصادر.
ولما وصل كتاب الأمير تلكتمور إلى أمير أزاق ، وهو محمد خوارجه الخوارزمي (٢٠)
__________________
(١٦) البوزة مشروب ثخين مخمّر قليلا مصنوع من طبيخ أنلي ، ما يعرف اليوم باسم البيرّة ولفظ البوظة معروف كذلك إلى اليوم ، وهي من أصل صقلبي سلافي (Cyrilique) هذا ويلاحظ أن تناول الخبز في المنطقة قليل ...
(١٧) الدخن : أنلى أما الدهن فهو الشحم وشبهه.
(١٨) من الممكن أن يكون القصد إلى نهر ميوس (Miuss) الذي يقع في غرب طاگانروك (TAGANROG) كان على ابن بطوطة أن يصعد القرم ثانية ويحاذي الساحل الشمالي لبحيرة أزوف ، وكانت تسمى أزاق.
(١٩) أزاق : هي المعروفة اليوم أزوف AZOV ، وقد عرفت في العصور الوسطى باسم طاناTANA على بعد ٣٠ ك. م. غرب روسطوف ROSTOV وجنوب ساحل مصب نهر ضون Don. كانت أزوف (أزاق) نقطة انطلاق للقوافل الذاهبة نحو فولگا وما وراءها ، الاسم التركي لازاق كان يظهر على قطع السكة النقدية ابتداء من عام ٧١٧ ١٣١٧ ، أولا في جنوة حوالي ٧١٦ ١٣١٦ ثم عند البنادقة ٧٣٢ ١٣٣٢ الذين أقاموا هناك مستعمرات تجارية.
(٢٠) المهم أن نشير إلى أن اسم محمد خواجا الخوارزمي يوجد في نصّ بندقي لعام ٧٣٤ ١٣٣٤ ذكر على أنه حاكم طانا أي أزاق ... وقد تحدث التاريخ الدّولي عن الاتفاقية المبرمة بين امبراطورية طرابيزون والبندقية عام ٧٦٤ ١٣٦٤.