ولادته ونشأته :
ولد أبو الشيخ الحافظ قبل بداية الربع الأخير من القرن الثالث الهجري سنة ٢٧٤ ه (١) في أزهى عصور السنة وأسعدها ، وفيه ازدهر الحديث وعلومه ، وبلغ الذروة ، وبدأت الحركة العلمية الواسعة في تدوين الحديث وعلومه حفظا له ودفاعا عنه ، حتى تميز الصحيح منه عن غيره ، وبذلك حق هذا القرن بأن يسمى القرن الذهبي لخدمة السّنّة وتدوينها ، ففتح أبو الشيخ عينيه في الجزء الأخير من هذا القرن في بيئة علمية مليئة بالمحدثين وآثارهم ، ألا وهي مدينة أصفهان ، وليست هي وحدها ، بل كانت ـ مدن المشرق خاصة ـ معظمها من المراكز الرئيسية لرواية الحديث ، ولا سيما منطقة خراسان الواسعة التي كانت تشمل على : بست ، وهرات ، ونسا ، وبلخ ، وبخارى ، وسمرقند ، ومرو ، وجرجان ، ونيسابور ، وأضف إلى ذلك : الرّيّ ، وطوس ، وغيرها ، فكانت هذه المدن دار الآثار ، وكان لأهلها اليد الطولى في تدوين الحديث وعلومه ، بل فاقوا وسبقوا غيرهم في جميع العالم الإسلامي بلا استثناء في القرن المذكور.
فلو استعرضنا المدونات في الحديث وعلومه ، لرأينا أن معظم كتب السنة وكتب الرجال يعود الفضل في تأليفها إلى علماء هذه المناطق.
فصحيحا البخاري ومسلم ـ وهما أصح الكتب بعد كتاب الله ـ والسنن الأربعة ، وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان ، ومعاجم الطبراني وغير ذلك من الكتب من آثار أولئك الجهابذة العلماء ، وفي هذا دليل واضح على سعة ثقافتهم العلمية التي انتشرت وعمّت في تلك البلاد ، ولم يتوقف نشاطها العلمي ، بل اقتفى الخلف آثار السلف في القرن الذي يليه ، وذلك لأنّ الجو كان معدّا ومهيّئا لتلقي العلوم ، وبالأخصّ سماع الحديث. فمنهم أبو الشيخ الذي سيتبع هذه الآثار ، وفي هذا الجو العلمي يولد أبو الشيخ ، فيولد ويستقبل عصر العلم وقرن تدوين الحديث الذهبي ، الذي يسهل له طلب العلم ، ويشوقه ويساعده فيما
__________________
(١) انظر «مختصر طبقات علماء الحديث» لابن عبد الهادي ٣٢٤ / ٢ ، و «تذكرة الحفاظ» ٣ / ٩٤٥ ، «وسير النبلاء» ٢١٥ / ١٠ ، و «طبقات المفسرين» للداودي ١ / ٢٤٠.