فذلك ألف سنة وثلاثمائة سنة ، وتسعون سنة منذ ولد إلى أن أغرق الله الدنيا ، وعاش بعد ذلك تسعين سنة لتمام ألف وأربعمائة وستة وثمانين سنة ، فكان موته في الألف الثالث بعد أربعمائة وستة وأربعين سنة من الألف الثالث ، فكان نوح بينه وبين آدم عشرة قرون ، وعشرة آباء ، فكان نوح بن لمك بن متوشلخ (١) بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ، فبعثه الله رسولا وهو أول رسول بعث الله ، فذلك قول الله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(٢) ، وكان قد فشت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة وعتوّا عتوا كبيرا ، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا ، سرّا وعلانية ، وكان صبورا حليما ، ولم يلق أحد من الأنبياء مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيدا (٣) ، ويضرب في المجالس ويطرد ، وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم ويقول : يا رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، فكان لا يزيدهم بذلك إلّا فرارا منه ، حتى إنه ليكلّم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ، ويجعل أصابعه في أذنيه لكي لا يسمع شيئا من كلامه ، فذلك قول الله : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ)(٤) يقول : نغصوا ، ثم قاموا من المجلس فأسرعوا المشي ، وقالوا امضوا فإنه كذاب ، قال : فاشتد عليه البلاء ، وكان ينتظر القرن بعد القرن ، والجيل بعد الجيل (٥) ، فلا يأتي قرن إلّا وهو أخبث من الأول ، وأعتى (٦) من الأول ، ويقول الرجل منهم : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا قبل آبائنا فلم يزل هكذا مختونا (٧) ، وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده : احذروا هذا المجنون ، فإنه قد حدّثني آبائي إلى هلاك الناس على يدي هذا ، فكانوا كذلك يتوارثون الوصية بينهم حتى إذا كان الرجل ليحمل ولده على عاتقه ثم يقف به عليه فيقول : يا بني إن عشت ومت أنا فاحذر هذا الشيخ ، فإنه مجنون ، ويكون هلاك الناس على يدي هذا.
قال : فلما أن طال ذلك بهم وبه قالوا : يا نوح ما نراك جئنا بشيء نعرفه ، فما كثرة دعائك [إلّا](٨) بالذي يزيدنا منك بعدا وفرارا منك ، وما أنت إلّا مجنون أو مسحور ، فلما (٩)
__________________
(١) الأصل وم و «ز» : متوشلح ، والمثبت عن الطبري.
(٢) سورة العنكبوت ، الآية : ١٥.
(٣) كذا بالأصل وم و «ز» ، وفي المختصر : قعيدا. والوقيذ : الشديد المرض ، المشرف (القاموس).
(٤) سورة نوح ، الآية : ٨.
(٥) الأصل وم ، وفي «ز» : والحمل بعد الحمل.
(٦) كذا بالأصل وم ، وفي «ز» : وأعمى.
(٧) كذا بالأصل و «ز» ، وإعجامها مضطرب في م ، وقد تقرأ : «مجنونا» وفي المختصر : مجنونا.
(٨) زيادة اقتضاها السياق.
(٩) من قوله ... هذا إلى ... هنا سقط من «ز».