سرّه ذلك ، وكتب إليه يأذن له في القدوم عليه ، فخرج جبلة في خمسين ومائة (١) رجل من أهل بيته حتى إذا كانوا من المدينة على ميلين عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل وقلّدها قلائد الفضة وألبسهم الديباج وسرق الحرير (٢) ، ولبس تاجه فيه قرطا مارية وهي جدته. قال : وبلغ عمر بن الخطاب ، فبعث إليه بالنزل هناك ، ثم دخل المدينة في هيئته. قال : فلم تبق بكر ولا عانس إلّا خرجت تنظر إلى جبلة وموكبه ، فأقبل حتى دخل على عمر بن الخطاب ، فسلّم عليه ورحّب به عمر ، وسرّ بإسلامه وبقدومه ، ثم أقام أياما ، وأراد عمر الحج من عامه ذلك ، فخرج جبلة معه مشهورا بالموسم ينظر إليه الناس ويتعجّبون من هيئته وكماله. قال : فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطئ رجل من بني فزارة إزاره من خلقه فانحلّ ، فما ورع جبلة أن رفع يده فهشم أنف الفزاري (٣) ، فولّى الفزاريّ والدماء تشخب من أنفه حتى استعدى عليه عمر بن الخطاب ، فبعث إلى جبلة فأتاه ، فقال له : يا جبلة هشمت أنف الرجل؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، اعتمد حلّ إزاري ، ولو لا حرمة الكعبة لضربت بالسيف بين عينيه ، فقال له عمر : أما أنت فقد أقررت ، فإمّا أن ترضي الرجل ، وإلا أقدته منك ، قال : تصنع ما ذا؟ قال عمر : إمّا أن يهشم أنفك كما هشمت أنفه ، وإمّا أن ترضيه. قال جبلة : أو خطير هو لي (٤)؟ قال : نعم. قال : وكيف وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر : الإسلام قد جمعك وإياه ، فلست تفضله إلا بالعافية (٥). قال جبلة : والله لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن سأكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر : هو ما ترى إما أن تقيده أو ترضيه. قال جبلة : إذا أتنصّر. قال عمر : إن فعلت قتلتك. قال : لم؟ قال : لأنك قد دخلت في الإسلام فإن ارتددت قتلتك. قال : فلما رأى جبلة أن عمر لا تأخذه في الله لومة لائم وليست له حيلة ، واجتمع من حيّ الفزاري وحيّ جبلة على باب عمر جمع كثير حتى كادت تكون فتنة عظيمة ، فقال : أنا أنظر في هذا الأمر ليلتي هذه ، وانصرف إلى منزله ، وتفرّق الناس ، فلما ادلهمّ الليل عليهم تحمّل جبلة في أصحابه من ليلته إلى الشام ، وأصبحت المدينة منه ومن قومه بلاقع ، ثم أتى الشام فتحمّل في
__________________
(١) في البداية والنهاية : فركب في خلق كثير من قومه ، قيل مائة وخمسين راكبا ، وقيل : خمسمائة.
(٢) سرق الحرير : جمع سرقة ، وهي القطعة من جيد الحرير الأبيض.
(٣) زيد في البداية والنهاية : ومن الناس من يقول : إنه قلع عينه.
(٤) يقال : هذا خطير لهذا وخطر له ، أي مثل له في القدر.
(٥) في البداية والنهاية : بالتقوى.