فإن قلت : (أُخْرى) ما محلها من الإعراب؟ قلت : يحتمل الرفع والنصب : أما الرفع فعلى قوله (فَإِذا نُفِخَ) (١) (فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وأما النصب فعلى قراءة من قرأ (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) والمعنى : ونفخ في الصور نفخة واحدة ، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ : قياما ينظرون : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل : ينظرون ما ذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم.
(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)(٧٠)
قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذاك. والمعنى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ، وينادى عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ، لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض ، لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها ، وإنما يجوز فيها غير ربها ، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما تقول : أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الظلم ظلمات يوم القيامة» (٢) وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم. وقرئ : وأشرقت على البناء للمفعول ، من شرقت بالضوء تشرق : إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا. و (الْكِتابُ) صحائف الأعمال ، ولكنه اكتفى باسم الجنس ، وقيل : اللوح المحفوظ (الشُّهَداءِ) الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار. وقيل : المستشهدون في سبيل الله
__________________
(١) قوله «أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ» أى في الحافة. وقوله «من قرأ» أى : هناك. وقوله «حذفت» أى هنا. (ع)
(٢) متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم عن جابر والنسائي وأبى داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص