استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه توجها لا يلوى على شيء ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونحوه قولهم : استقام إليه وامتد إليه. ومنه قوله تعالى (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) والمعنى : ثم دعاه داعى الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل : كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء ، فأخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء وعلا عليه ، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها أرضين ، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما : أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع ، (١) وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلا ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه ، فقالتا. أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير (٢) أثر قدرته في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني؟ قال الوتد : اسأل من يدقني ، فلم يتركني ، ورائي الحجر الذي ورائي (٣). فإن قلت ، لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوّة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فالمعنى. ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف : ائتى يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما تقول : أتى عمله مرضيا ، وجاء مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده ونقتضيه الحكمة والتدبير : من كون الأرض قرارا للسماء ، وكون السماء سقفا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ : آتيا ، وآتينا : من المؤاتاة وهي الموافقة : أى : لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا ، وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمرى ومشيئتى ولا تمتنعا. فإن قلت : ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما
__________________
(١) قوله «فعل الآمر المطاع» لعله : أمر الآمر. (ع)
(٢) قوله «تصوير أثر قدرته» لعله : تأثير. (ع)
(٣) قال محمود : «إما أن يكون هذا من مجاز التمثيل كأن عدم امتناعهما على قدرته امتثال المأمور المطيع إذا ورد عليه الأمر المطاع ، فهذا وجه. واما أن يكون تخييلا فيبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماوات والأرض فأجابتاه ، والغرض منه تصوير أثر القدرة في المقدور من غير أن يحقق شيئا من الخطاب والجواب ، ومثله قول القائل : قال الحائط للوتد لم تشقني؟ فقال الوتد : اسأل من يدفنى لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي» قال أحمد : قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل على كلام الله تعالى ، فان معنى هذا الإطلاق لو كان صحيحا والمراد منه التصوير لوجب اجتناب التعبير عنه بهذه العبارة ، لما فيها من إيهام وسوء أدب ، والله أعلم.