وقرئ : يعشو ، على أنّ من موصولة غير مضمنة معنى الشرط. وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض. ومعنى القراءة بالفتح : ومن يعم (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) وهو القرآن ، كقوله تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وأما القراءة بالضم فمعناها : ومن يتعام عن ذكره ، أى : يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى ، كقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ). (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) نخذله (١) ونخل بينه وبين الشياطين ، كقوله تعالى (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) وقرئ : يقيض ، أى : يقيض له الرحمن ويقيض له الشيطان. فإن قلت : لم جمع ضمير من وضمير الشيطان في قوله (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ)؟ قلت : لأنّ (مَنْ) مبهم في جنس العاشى ، وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه ، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحدين : جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعا (حَتَّى إِذا جاءَنا) العاشى. وقرئ : جاءانا ، على أنّ الفعل له ولشيطانه. (قالَ) لشيطانه (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) يريد المشرق والمغرب ، فغلب. كما قيل : العمران والقمران. فإن قلت : فما بعد المشرقين؟ قلت : تباعدهما ، والأصل : بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق. فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية : أضاف البعد إليهما (أَنَّكُمْ) في محل الرفع على الفاعلية ، يعنى : ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه ، لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدّته وعنائه ، وذلك أنّ كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته ، ولك أن تجعل الفعل للتمني في قوله (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) على معنى : ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين. وقوله (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) تعليل ، أى : لن ينفعكم تمنيكم ، لأنّ حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر. وتقوّيه قراءة من قرأ : إنكم بالكسر. وقيل : إذا رأى الممنوّ بشدّة (٢) من منى بمثلها : روّحه ذلك ونفس بعض كربه ، وهو التأسى الذي ذكرته الخنساء :
__________________
ـ يقول : إن ناري هي نار جارى ، وتنزل قدرى إليه ليأكل منها قبلي أو ناري ونار جارى واحدة في الزمن والقوة ومع ذلك تنزل قدره إليه قبلي ليأكلها سريعا خوف اطلاع أحد عليه. لكن يبعد هذا أن المقام ليس لذم الجار بل للمدح. ثم هذا كناية عن شدة كرمه على غيره ، ثم وصف نفسه بالعفة بقوله : ما ضرني جار من جيراني بمسبة ولا غيرها من أن لا يكون لبابه حجاب يستر أهله ، فانى أتغافل وأغض بصرى إذا خرجت جارتى ، حتى يسترها بينها. وأتى بالظاهر موضع المضمر ليفيد أنه ينبغي مراعاة حق الجوار. والاحتمال الأول أقعد ، لأن معناه أنه يبره ويعف عن محارمه. وأما الثاني ففيه ذم جاره ، وهو لا يلائم بعده.
(١) قوله «نقيض له شيطانا : نخذله» تأويله بذلك مبنى على أنه تعالى لا يفعل القبيح ، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة أنه فاعل الكائنات كلها ، فالآيات على ظاهرها (ع)
(٢) قوله «إذا رأى الممنو بشدة» أى المبتلى. ومنى : أى ابتلى. أفاده الصحاح (ع)