قلت : ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمى به على السليقة ، من غير صنعة ولا تكلف ، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه إن جاء موزونا ، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر ، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز ، على أن الخليل ما كان يعدّ المشطور من الرجز شعرا ، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) يعنى : ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجنّ ، كما قال (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وما هو إلا قرآن كتاب سماوي ، يقرأ في المحاريب ، ويتلى في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ (لِيُنْذِرَ) القرآن أو الرسول وقرئ : لتنذر ، بالتاء. ولينذر : من نذر به إذا علمه (مَنْ كانَ حَيًّا) أى عاقلا متأملا ، لأن الغافل كالميت. أو معلوما منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) وتجب كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) الذين لا يتأمّلون ولا يتوقع منهم الإيمان.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)(٧٣)
(مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا ، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها ، التي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدى : استعارة من عمل من يعملون بالأيدى (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أى خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون ، من قوله :
__________________
ـ ونزلها منزلة العاقل فخاطبها بذلك تسلية وتثبيتا لها ، وهو في الحقيقة لنفسه «ثم صرح بخطاب النفس مثبتا لها. بقوله إن لم تقتلي في الحرب فلا بد لك من الموت وهذه حياضه فلا تفرى منها لأن الوقوع في البلاء أهون من انتظاره وشبه الموت بسيل على سبيل المكنية ، فأثبت له الحياض تخييلا ، وشبهه بالنار كذلك ، فأثبت له الصلى وهو اقتحام النار ، ولا مانع من تشبيه الشيء بأمرين مختفين مع الرمز لكل منهما بما يلائمه ، ويجوز استعارة الحياض للمعرفة تصريحا ، والذي تمنيته من الحرب المؤدى إلى الشهادة فقد لقيته ، إن تفعلي كفعل زيد وجعفر ، هديت إلى طريق الخير.