أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١١)
هم الذين خلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش (١) أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ، ليعلم أنه لا يريد حربا ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر (٢) داره بالمدينة وقتلوا أصحابه ، فيقاتلهم ، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. وقرئ : شغلتنا ، بالتشديد (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تكذيب لهم في اعتذارهم. وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق ، وطلبهم للاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ) فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ) ما يضركم من قتل أو هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) من ظفر وغنيمة (٣) وقرئ : ضرا ، بالفتح والضم. الأهلون : جمع أهل. ويقال : أهلات ، على تقدير تاء التأنيث. كأرض وأرضات ، وقد جاء أهلة. وأمّا أهال ، فاسم جمع ، كليال.
(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١٢)
__________________
(١) أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية آدم عن ورقاء. عن ابن نجيج عن مجاهد نحوه
(٢) قوله «قد غزوه في عقر داره» في المصباح : عقر الدار أصلها ، وهو محلة القوم. وأهل المدينة يقولون : عقر الدار ، بالضم. (ع)
(٣) قال محمود : «أى قتلا وهزيمة أو أراد بكم نفعا أى ظفرا وغنيمة» قال أحمد : لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف ، وكان الأصل ـ والله أعلم ـ : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا ، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا ، لأن مثل هذا النظم يستعمل في الضر ، وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا ، كقوله (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث «إنى لا أملك لكم شيئا» يخاطب عشيرته وأمثاله كثيرة ، وسر اختصاصه بدفع المضرة : أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه ، وليس كذلك حرمان المنفعة ، فانه ضرر عائد عليه لا له ، فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه ، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفى لدفع المقدر من خير وشر ، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة ، وخص عبارة دفع الضر ، لأنه هو المتوقع لهؤلاء ، إذ الآية في سياق التهديد أو الوعيد الشديد ، وهي نظير قوله (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) فان العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته ، والله أعلم.