عدّد الله عز وعلا آلاءه ، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قد ما من ضروب آلائه (١) وأصناف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها : وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحى الله رتبة ، وأعلاه منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثرا ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه : ليعلم أنه إنما خلقه الدين ، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله ، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدّما عليه وسابقا له ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح (٢) المعرب عما في الضمير و (الرَّحْمنُ) مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟ (بِحُسْبانٍ) بحساب معلوم وتقدير سوىّ (تَجْرِيانِ) في بروجهما ومنازلهما. وفي ذلك منافع للناس عظيمة : منها علم السنين والحساب (وَالنَّجْمُ) والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول (وَالشَّجَرُ) الذي له ساق. وسجودهما : انقيادهما لله فيما خلقا له ، وأنهما لا يمتنعان ، تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده. فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ قلت : استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي ، لما علم أن الحسبان حسبانه ، والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له. فإن قلت : كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ، ثم جيء به بعد؟ قلت : بكت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التهديد ، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه ، كما يبكت منكر أيادى المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدّمته ، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب
__________________
(١) قال محمود : «عدد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد ما في ضروب آلائه ... الخ» قال أحمد : نغير من هذا الكلام قوله : أن خلق الإنسان كان الغرض فيه. أى المراد منه : أن يحيط علما بالكتب والوحى ، ويعوض بأن المراد بخلقه : أن يدعى إلى ذلك ، لا أن يقع ذلك منه ، فهذا هو المراد العام ، ثم منهم من أراد الله منه أن يحيط علما بالدين فيسر له ذلك ، ومنهم من أراد ضلالته وجهالته فبعد عنه ولم يوفق ، والله الموفق الصواب.
(٢) قال محمود : «ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب ... الخ» قال أحمد : وإنما خص الجمل الأول بذكرها تبكيتا للإنسان لأجل التصاق معانيها به ، ألا ترى أنه مذكور فيها نطقا وإضمارا وحذفا مدلولا عليه في الكلام ، فهو منطوق به مظهرا في قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ومضمرا في قوله (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ومدلولا على حذفه في قوله (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فانه المفعول الثاني ، أما قوله (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فليس للإنسان فيهما ذكر البتة ، وجل المقصود من سياقهما التنبيه على عظمة الله تعالى.