(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١٩)
كرر الأمر بالتقوى تأكيدا : واتقوا الله في أداء الواجبات ؛ لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجرى مجرى الوعيد. والغد : يوم القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له (١) وعن الحسن : لم يزل يقربه حتى جعله كالغد. ونحوه قوله تعالى (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) يريد : تقريب الزمان الماضي. وقيل : عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران : يوم وغد. فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قمن للآخرة ، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك.
وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه. وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا. خسرنا ما خلفنا (نَسُوا اللهَ) نسوا حقه ، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان (٢) ، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ).
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)(٢٠)
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات : كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما ، وأن الفوز مع أصحاب الجنة ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه ، كما تقول لمن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضى البر والتعطف.
__________________
(١) قال محمود : «سمى يوم القيامة غدا تقريبا له ... الخ» قال أحمد : وقد قيل في قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) كقوله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) حتى قيل : إنه من عكس الكلام الذي يقصد به الافراط فيما يعكس عنه ، كقوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فمعنى رب هاهنا هو معنى كم ، وأبلغ منه قول القائل :
قد أترك القرن مصفرا أنامله
إلا أن الزمخشري فر من هذا المعنى ، لأن الواقع قلة النفوس الناظرة في أمر المعاد ، فنزله على معنى يطابق الواقع ، ويمكن أن يلاحظ الأمر فيسوغ حمله على التكثير النفوس المأمورات بالنظر في المعاد ، وأنه ما من نفس إلا ومن حقها أن تمتثل هذا الأمر ، وهو نظر حسن ، فان الفعل المسند إلى النفس هاهنا ليس وقوع النظر حتى يستقل ، وإنما هو طلب النظر وهو عام التعلق بكل نفس. والانصاف : أن ما ذكره الزمخشري أمكن وأحسن ، والله الموفق.
(٢) قال محمود : «جعلهم ناسين بالخذلان» قال أحمد : بل خلق فيهم النسيان.