وبإيمانهم ، هذا من أفصح كلام وأبلغه (١) في معناه قصد في (كَبُرَ) التعجب من غير لفظه كقوله :
غلت ناب كليب بواؤها (٢)
ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، وأسند إلى أن تقولوا. ونصب (مَقْتاً) على تفسيره ، دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه. ومنه قيل : نكاح المقت ، للعقد على الرابة (٣) ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا ، حتى جعل أشده وأفحشه. و (عِنْدَ اللهِ) أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك. وعن بعض السلف أنه قيل له : حدّثنا ، فسكت ثم قيل له حدثنا ، فقال : تأمروننى أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله. في قوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) عقيب ذكر مقت المخلف : دليل (٤) على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا. وقرأ زيد بن على : يقاتلون بفتح التاء. وقرئ : يقتلون (صَفًّا) صافين أنفسهم أو مصفوفين (كَأَنَّهُمْ) في تراصهم من غير فرجة ولا خلل (بُنْيانٌ) رص بعضه إلى بعض ورصف. وقيل : يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وعن بعضهم : فيه دليل على فضل القتال راجلا ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. وقوله (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ) حالان متداخلتان (٥).
__________________
(١) قال محمود : «هذا من أفصح الكلام وأبلغه ، في معناه قصد إلى التعجب بغير صيغة التعجب لتعظيم الأمر ... الخ» قال أحمد : وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس : وهو تكراره لقوله (ما لا تَفْعَلُونَ) وهو لفظ واحد في كلام واحد ومن فوائد التكرار : التهويل والإعظام ، وإلا فقد كان الكلام مستقلا لو قيل : كبر مقتا عند الله ذلك ، فما إعادته إلا لمكان هذه الفائدة الثانية ، والله أعلم.
(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٢٧٣ فراجعه إن شئت اه مصححة.
(٣) قوله «على الرابة» هي بتشديد الباء كالدابة. وفي الصحاح : نكاح المقت كان في الجاهلية : أن يتزوج الرجل امرأة أبيه اه. (ع)
(٤) قال محمود : «ذكره لهذا عقيب ذكر مقت المخلف دليل ... الخ» قال أحمد : صدق ، والأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة ، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) فالنهي العام ورد أولا ، والمقصود اندراج هذا الخاص فيه كما تقول للمقترف جرما معينا : لا تفعل ما يلصق العار بك ولا تشاتم زيدا ، وفائدة مثل هذا النظم : النهي عن الشيء الواحد مرتين مندرجا في العموم ومفردا بالخصوص ، وهو أولى من النهى عنه على الخصوص مرتين فان ذلك معدود في حين التكرار ، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل ، والله أعلم.
(٥) قال محمود : «قوله (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) : حالان متداخلتان» قال أحمد : يريد أن معنى الأولى مشتمل على معنى الثانية ، لأن التراص هيئة للاصطفاف ، والله أعلم.