(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٥)
(وَإِذْ) منصوب بإضمار اذكر. أو : وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا (تُؤْذُونَنِي) كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه ، وجحود آياته ، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال ، أى : تؤذوننى عالمين علما يقينا (١) (أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بى ، لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله ، علما بأن تعظيمه في تعظيم رسوله ، ولأن من آذاه كان وعيد الله لا حقا به (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحق (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) بأن منع ألطافه عنهم (٢) (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف. فإن قلت : ما معنى (قَدْ) في قوله (قَدْ تَعْلَمُونَ)؟ قلت : معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.
(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٦)
__________________
(١) قال محمود : «بين أنهم على عكس الصواب حيث قال : تؤذوننى عالمين ... الخ» قال أحمد : أهل العربية تقول : إن «قد» تصحب الماضي لتقريبه من الحال. ومنه قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، وتشتمل المصاحبة للماضي أيضا على معنى التوقع ، فلذلك قال سيبويه «قد فعل» جواب لما يفعل ، وقال الخليل : هذا الخبر لقوم ينتظرونه ، وأما مع المضارع فإنها تفيد التقليل مثل : ربما ، كقولهم : إن الكذوب قد يصدق ، فإذا كان معناها مع المضارع التقليل وقد دخلت في الآية على مضارع ، فالوجه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا من الكلام الذي يقصدون به الافراط فيما ينعكس عنه ، وتكون «قد» في هذا المعنى نظيرة «ربما» في قوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) فإنها في هذا الموضع أبلغ من كم في التكثير ، فلما أوردت «ربما» في التكثير على عكس معناها الأصلى في التقليل ، فكذلك إيراد «قد» هاهنا لتكثير علمهم ، أى : تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصلى في تقليل الأصل ، وعليه : قد أترك القرن مصفرا أنامله وإنما مدح نفسه بكثرة هذا الفعل منه عكس ديدنه الأصلى ، ولا يقال : إن حملها في الآية على التكثير متعذر ، لأن العلم معلوم التعلق لا يتكثر ولا يتقلل ، لأنا نقول : يعبر عن تمكن الفعل وتحققه وتأكده وبلوغه الغاية في نوعه بما يعبر به عن التكثير ، وهو تعبير صحيح. ألا ترى أن قوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو من هذا القبيل ، فان المراد شدة ودهم لذلك وبلوغه أقصى منتهاه لا غير ، والله الموفق.
(٢) قوله «بأن منع ألطافه عنهم» فسر الازاغة بذلك بناء على مذهب المعتزلة : أنه تعالى لا يريد الشر. ومذهب أهل السنة : أنه تعالى يريد الشر والخير ، كما تقرر في محله. (ع)