بالله في موضع أقسم وأولى. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن «أشهد» يمين (١). ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان. وقرأ الحسن البصري : إيمانهم ، أى : ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم. ويعضده قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا). (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله. وفي (ساءَ) معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أى : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) فجسروا على كل عظيمة. فإن قلت : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، (٢) فما معنى قوله (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : آمنوا ، أى : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات. ونحوه قوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أى : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا. ونحوه قوله تعالى (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) والثاني آمنوا : أى نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) والثالث : أن يراد أهل الردة منهم. وقرئ : فطبع على قلوبهم. وقرأ زيد بن على : فطبع الله.
__________________
(١) قال محمود : «استدل لأبى حنيفة على أن قول القائل «أشهد» يمين بقوله (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ولم يصدر منهم إلا قولهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) فجعله يمينا» قال أحمد : أحد القولين عند مالك رحمه الله إذا قال أشهد وأحلف وأقسم ولم ينو بالله ولا بغيره ، كما نقل عن أبى حنيفة أنه يمين وليس بالمشهور. أما لو نوى بالله وإن لم بتلفظ فيمين بلا إشكال ، وليس فيما ذكره دليل على ما ذكره ، فان قوله (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) غايته أن ما ذكروه يسمى يمينا ، وليس الخلاف في تسميته يمينا ، وإنما الخلاف هل يكون يمينا منعقدة يلزم بالحنث فيها كفارة أم لا؟ وليس كل ما يسمى حلفا أو قسما يوجب حكما ، ألا ترى أنه لو قال : «أحلف» ولم يقل «بالله» ولا بغيره ، فهو من محال الخلاف في وجوب الكفارة به ، وإن كان حلفا لغة باتفاق ، لأنه فعل مشتق منه.
(٢) قال محمود : «المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ... الخ. قال أحمد : ويحتمل وجها رابعا وهو أنهم آمنوا به قبل مبعثه على الصفة المذكورة في التوراة ، لأنهم كانوا يسمعونها من جيرانهم اليهود ، ثم كفروا به بعد مبعثه وموافقة الصفة ، ولعل في المنافقين يهودا ، وإن لم يكن فقد كان الايمان قبل مبعثه من الفريقين : اليهود وعبدة الأوثان من العرب ، إلى نزول قوله (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) كيف حكى الله تعالى عن الفريقين ما كانوا يقولونه. والبينة : النبي صلى الله عليه وسلم.