وانهزمت المسودة هزيمة قبيحة ، وتبعهم أهل الكوفة يقتلونهم حتى بلغوا صعنبا فنادى أبو السرايا : يا أهل الكوفة أحذروا كرّهم بعد الفرّة ، فإن العجم قوم دهاة ، فلم يصغوا إلى قوله وتبعوهم.
وكان هرثمة قد أسر في ذلك الوقت ، ولم يعلم أبو السرايا ، أسره عبد سندي ، وقبل ذلك خلّف في عسكره زهاء خمسة آلاف فارس يكونون ردءا له إن انهزم أصحابه ، وخلّف عليهم عبيد الله بن الوضاح ، فلما وقعت الهزيمة ونادى أبو السرايا : لا تتبعوهم ، كشف عبيد الله بن الوضاح رأسه ، وأصحابه يقولون : قتل الأمير ، قتل الأمير فناداهم : فماذا يكون إذا قتل الأمير؟ يا أهل خراسان إليّ أنا عبد الله بن الوضاح ، اثبتوا ، فو الله ما القوم إلّا غوغاء ورعاع ، فثابت إليه طائفة ، وحمل على أهل الكوفة فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وتبعوهم حتى جاوزوا صعنبا ، ووجدوا هرثمة أسيرا في يد عبد أسود ، فقتلوا العبد ، وحلّوا وثاق هرثمة ، وعاد إلى معسكره ولم تزل الحرب مدة متراخية في كل يوم أو يومين تكون سجالا بينهم.
ثم إن أبا السرايا بعث علي بن محمد بن جعفر المعروف بالبصري في خيل ، وأمره أن يأتي هرثمة من ورائه ، فمضى لوجهه ولم يشعر هرثمة حتى قرب منه ، وحمل أبو السرايا عليه فصاح هرثمة :
يا أهل الكوفة علام تسفكون دماءنا ودماءكم؟ إن كان قتالكم إيّانا كراهية لإمامنا فهذا المنصور بن المهدي رضي لنا ولكم نبايعه ، وإن أحببتم إخراج الأمر من ولد العباس فانصبوا إمامكم ، واتفقوا معنا ليوم الاثنين نتناظر فيه ، ولا تقتلونا وأنفسكم.
فأمسك أهل الكوفة عن الحملة ، وناداهم أبو السرايا : ويحكم إن هذه حيلة من هؤلاء الأعاجم ، وإنما أيقنوا بالهلاك فاحملوا عليهم ، فامتنعوا وقالوا : لا يحل لنا قتالهم وقد أجابوا. فغضب أبو السرايا وانصرف معهم ، وقد أراد قبل ذلك إجابة هرثمة وأن يمضي إليه مع محمد بن محمد بن زيد فيستأمن ، ثم خشي الغدر به.
فلما كان يوم الجمعة خطب أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
يا أهل الكوفة ، يا قتلة علي ، ويا خذلة الحسين ، إن المعتز بكم لمغرور ، وإن المعتمد على نصركم لمخذول ، وإن الذليل لمن أعززتموه ، والله ما حمد عليّ أمركم فنحمده ، ولا رضي مذهبكم فنرضى به ، ولقد حكّمكم فحكمتم عليه ، وائتمنكم فخنتم أمانته ووثق بكم فحلتم عن ثقته ، ثم لم تنفكوا عليه مختلفين ، ولطاعته ناكثين ،