(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)
____________________________________
من أمر البعث والحساب والجزاء أى وما خلقناهما وما بينهما من المخلوقات على هذا النظام البديع الذى تحار فى فهمه العقول خلقا باطلا أى خاليا عن الغاية الجليلة والحكمة الباهرة بل منطويا على الحق المبين والحكم البالغة حيث خلقنا من بين ما خلقنا نفوسا أو دعناها العقل والتمييز بين الحق والباطل والنافع والضار ومكناها من التصرفات العلمية والعملية فى استجلاب منافعها واستدفاع مضارها ونصبنا للحق دلائل آفافية وأنفسية ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف بل أرسلنا إليها رسلا وأنزلنا عليها كتابا بينا فيها كل دقيق وجليل وأزحنا عللها بالكلية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمة وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالها (ذلِكَ) إشارة إلى ما نفى من خلق ما ذكر باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى مظنونهم فإن جحودهم بأمر البعث والجزاء الذى عليه يدور فلك تكوين العالم قول منهم ببطلان خلق ما ذكر وخلوه عن الحكمة سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بما فى حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافى بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم ومن فى قوله تعالى (مِنَ النَّارِ) تعليلية كما فى قوله تعالى (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) ونظائره مفيدة لعلية النار لثبوت الويل لهم صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدى إليها من ظنهم وكفرهم أى فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم منقطعة وما فيها من بل للإضراب الانتقالى عن تقرير أمر البعث والحساب والجزاء بما مر من نفى خلق العالم خاليا عن الحكم والمصالح إلى تقريره وتحقيقه بما فى الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده أى بل أتجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين فى أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين فى التمتع بالحياة الدنيا بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين* إلى أسفل سافلين وقوله تعالى (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذى هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهو التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل فى إنكار التسوية من الوصفين الأولين وقيل قال كفار قريش للمؤمنين إنا نعطى فى الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة وقوله تعالى (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) صفته