(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨)
____________________________________
دون الواحدة كما توهم أى يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا من الدنيا (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التى هى الغاية القصوى والمطلب الأسنى (هُمْ غافِلُونَ) لا يخطرونها بالبال ولا يدركون من الدنيا ما يؤدى إلى معرفتها* من أحوالها ولا يتفكرون فيها كما سيأتى والجملة معطوفة على يعلمون وإيرادها اسمية للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها وهم الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ وغافلون خبره والجملة خبر للأولى وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالبهائم المقصور إدراكاتها من الدنيا على ظواهرها الخسيسة دون أحوالها التى هى مبادى العلم بأمور الآخرة وإشعارا بأن العلم المذكور وعدم العلم رأسا سيان (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) إنكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرف للتفكر وذكره مع ظهور استحالة كونه فى غيرها لتحقيق أمره وتصوير حال المتفكرين وقوله تعالى (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) الخ متعلق إما* بالعلم الذى يؤدى إليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذى يترتب عليه كما فى قوله تعالى (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أى أعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو أقصروا النظر عليه ولم يحدثوا التفكر فى قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ما خلقهما وما بينهما من المخلوقات التى هم من جملتها ملتبسة بشىء من الأشياء (إِلَّا) ملتبسة (بِالْحَقِّ) أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه إثر ما علموه* والمراد بالحق هو الثابت الذى يحق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكمة البالغة والغرض الصحيح الذى هو استشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها المتغيرة على وجود صانعها عزوجل ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته واختصاصه بالمعبودية وصحة أخباره التى من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب أعمالهم غب ما تبين المحسن من المسىء وامتازت درجات أفراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب فى المصنوعات من الآيات والدلائل والأمارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره صلىاللهعليهوسلم بقوله أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع فى طاعة الله وقد مر تحقيقه فى أوائل سورة هود عليهالسلام وقوله تعالى (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) عطف على الحق أى وبأجل معين قدره الله تعالى لبقائها لا بد لها من أن تنتهى* إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة هذا وقد جوز أن يكون قوله تعالى (فِي أَنْفُسِهِمْ) صلة للتفكر على معنى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) التى هى أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشئونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال