الإخفاء والكتمان والستر معان تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره ، مما لا مجال لتصوره في ذات الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ولعل هذا الإحساس هو الذي يتعمق في وعي الإنسان من خلال حركة إيمانه ، فيمنعه عن الجريمة الخفية ، والمعصية المستورة ، والنيّات الشريرة التي تتحفز للاندفاع والظهور.
(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) وتلك هي قصة الخالق في علمه غير المحدود بالنسبة إلى المخلوق المحدود في وجوده المستمد من وجود الله ، وعلمه المستمد من علم الله ، في ما أعطاه وفتح له من مجالاته وهيّأ له من أسبابه ، فليس للمخلوق أن يحيط بشيء من علم الله في عالم الشهود وفي عالم الغيب إلا بما شاء الله ، حتى الأنبياء ، فإنهم لا يملكون علم الغيب في تكوينهم الذاتي ، بحيث إن الله خلق فيهم الطاقة التي تكشف لهم عالم الغيب بشكل مطلق ، فينفتحون عليه باستقلالهم بعد ذلك ، بل إن الله هو الذي يفيض عليهم من هذا العلم بما يحتاجون إليه من ذلك في شؤونهم الرسالية من خلال طبيعة الدور الذي يقومون به والتحديات التي تواجههم ، وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى في الحكاية عن النبي نوح في خطابه لقومه على ما قصه الله من ذلك في سورة يونس : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) [الأنعام : ٥٠] ، وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٦ ـ ٢٨] فإنها ظاهرة في أن الله يمنحهم علم الغيب بما يهيئ لهم السبيل لاستقامة أمرهم وسلامة دورهم وحمايتهم من كل ما بين أيديهم وما خلفهم مما هو حاضر عندهم أو غائب عنهم ، تأكيدا لبقاء الإشراف الإلهي والسيطرة الربوبية عليهم ، بحيث يحتاجونه في كل شيء مما يحدث لهم أو يطرأ عليهم ، وهذا ما قد يوحي ببطلان نظرية الولاية التكوينية التي يراها بعض العلماء للأنبياء