في وعي الخلق كله ، فوجوده هو الوعي كله ، فلا سنة تصيبه ولا نوم يأخذه ، وهو المحيط في علمه بكل شؤون خلقه ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولا يملك أحد منهم أيّ شيء من علمه إلا من خلال مشيئته في إعطاء العلم لمن يشاء ، فكما أن كل وجودهم مستمد من وجوده ، فإن كل علمهم مستمد من علمه ، ولا شفاعة لأحد عنده من خلال ما يملك من قدرة أو تأثير أو دلالة عليه من خلال ذاته ، فمنه الشفاعة ، فهو الذي يأذن بها ، وهو الذي يختار نتائجها من خلال حكمته العميقة الشاملة ، وهو الذي اتسع ملكه وامتدت قدرته ، وانفتح حكمه على السموات والأرض ، فلا يضيق عنه شيء منها أو ممّا فيها ، فهو الذي يحتويها ويحتوي ما زاد عنها ، وهو الذي يملك العلو في أعلى درجاته ، فلا درجة أعلى من موقعه في ذلك ، وهو الذي انطلقت عظمته ، فلا عظيم أمامه ، لأن عظمة الأشياء هبة منه ، وخلق من خلقه.
وهكذا يعيش الإنسان مع ربّه في هذا التصور الفطري البسيط ، ليبقى في دائرة الوضوح الذي لا يحتاج معه إلى أيّة شروح وتفسيرات مما يلجأ إليه الفلاسفة في تعقيداتهم الفكرية على أساس الفلسفات الأخرى المرتكزة على القواعد البعيدة عن أجواء العقيدة الإسلامية ، بحيث يجد الإنسان المسلم نفسه ضائعا بين الجوّ الإسلامي للعقيدة ، والجوّ غير الإسلامي للفلسفة ، الأمر الذي يؤدّي إلى الكثير من الضبابية في عالم التصوّر.
إننا لا ننكر وجود قيمة فكرية في الأسلوب الفلسفي في معالجة قضايا الدين والعقيدة ، مما يمنح الفكرة شيئا من العمق الذي يؤكد قوتها أمام الأفكار الأخرى في مجالات الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه ، ولكننا نعتقد أن للقرآن أسلوبه الفطري في إثارة مفردات العقيدة على أساس الإيحاء الدائم بالبساطة الروحية في الوجدان الإسلامي ، فلا بد من ملاحظة هذا الجانب في دراسة الفلسفة الإسلامية.