إنّ محمدا قد رجع إلى ديننا ، فلمّا بلغ آخر النّجم سجد صلىاللهعليهوسلم وسجد كلّ من حضر من مسلّم أو مشرك ، غير أنّ الوليد بن المغيرة (١) كان شيخا كبيرا رفع ملء كفّيه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السّجود ، بسجود إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، عجب المسلمون بسجود المشركين معهم ، ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان ، وأمّا المشركون فاطمأنّوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، لما ألقي في أمنية رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحدّثهم الشيطان أنّ رسول الله قد قرأها في السّجدة ، فسجدوا تعظيما لآلهتهم.
وفشت تلك الكلمة في النّاس ، وأظهرها الشّيطان ، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه ، وحدّثوا أنّ أهل مكة قد أسلموا كلّهم وصلّوا ، وأنّ المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأنزلت (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا
__________________
= إنما قال ذلك إبليس حين تصوّر في صورة سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر ، وكما تصوّر في صورة الشيخ النّجديّ ، حين تشاورت قريش في دار النّدوة ، في أمر النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وكان مثل ذلك جائزا في زمن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم لضرب من التدبير ، فجائز أن يكون الّذي قال ذلك شيطانا ، فظن القوم أن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم قاله. (انظر ج ٣ / ٢٤٦ سورة الحج).
وقال الحافظ البيهقي في دلائل النبوّة ٢ / ٦٢ : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وبيّن جرح رواتها وطعن حملة العلم فيهم. وفي «البحر» أنّ هذه القصة سئل عنها محمد بن إسحاق صاحب «السيرة» فقال : هذا من وضع الزنادقة. وقال أبو منصور الماتريديّ : الصّواب أنّ قوله «تلك الغرانيق إلخ» من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزّنادقة ، والرسالة بريئة من هذه الرواية.
وقال القاضي عياض في الشفاء ٢ / ٢٨ : يكفيك أنّ هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصّحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته.
وقد فصّل القاضي عياض عدم صحّة هذه الرواية من عدّة وجوه يحسن مراجعتها. في كتابه الشفاء ٢ / ١١٦ ـ ١٢٣ ، وانظر تفسير القرطبي ١٢ / ٨٢ ، والنويري في نهاية الأرب ١٦ / ٢٣٥ ـ ٢٤١.
(١) ويقال هو أبو أحيحة سعيد بن العاص.