أيّها الملك ، كنّا قوما أهل جاهليّة نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويّ منّا الضّعيف ، فكنّا على ذلك ، حتى بعث إلينا رسولا منّا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة ، وأمرنا بالصّدق والأمانة وصلة الرّحم ، وعدّد عليه أمور الإسلام ، فصدّقناه واتّبعناه ، فعدا علينا قومنا فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، وضيّقوا علينا ، فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيّها الملك ، قالت : قال : وهل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر : نعم ، وقرأ عليه صدرا من (كهيعص) (١) فبكى والله النّجاشيّ ، حتى اخضلّ (٢) لحيته ، وبكت أساقفته ، حتى أخضلوا مصاحفهم ، ثم قال النّجاشيّ : إنّ هذا ، والّذي جاء به موسى (٣) ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلّمهم إليكما ولا يكاد (٤).
قالت : فلمّا خرجا من عنده قال عمرو : والله لآتينّهم غدا بما أستأصل به خضراءهم ، فقال له ابن أبي ربيعة ، وكان أتى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإنّ لهم أرحاما ، قال : والله لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى عبد ، ثم غدا عليه ، فقال له ذلك ، فطلبنا ، قالت : ولم ينزل بنا مثلها ، فاجتمع القوم ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا : نقول ، والله ، ما قال الله كائنا في ذلك ما كان ، فلمّا دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب : نقول هو عبد الله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول ،
__________________
(١) سورة مريم ، الآية ١.
(٢) في سيرة ابن هشام ٢ / ٨٨ «اخضلّت».
(٣) هكذا في الأصل و (الدرر لابن عبد البر) ، وفي نسخة دار الكتب (عيسى).
(٤) في السيرة «يكادون».