الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا؟.
وقد قال الله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] الآية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين فإن النسيء حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الزمان قد استدار» الحديث أي إن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالعقبة فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : «وإنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما» فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النسيء.
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلاما جيدا مفيدا حسنا فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عزوجل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان : ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عاما ويجعل مكانه صفر ويحرمه ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله (١). والله أعلم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ
__________________
(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٤.