في مجلسنا بالبقيع فقال : حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالبقيع وهو يقول : «من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة» قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم فعقدت على عمامتي ، فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد منه سوادا ولا أصغر منه ولا أدم ، ببعير ساقه لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها فقال : يا رسول الله أصدقة؟ قال : «نعم» قال : دونك هذه الناقة ، قال فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فو الله لهي خير منه. قال : فسمعها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال «كذبت بل هو خير منك ومنها» ثلاث مرات ، ثم قال : «ويل لأصحاب المئين من الإبل» ثلاثا قالوا إلا من يا رسول الله؟ قال: «إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال : «قد أفلح المزهد المجهد» ثلاثا. المزهد في العيش ، المجهد في العبادة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع (١).
وقال العوفي عن ابن عباس : إن رسول الله خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم ، فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما وأتيتك بالآخر ، فأمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ينثره في الصدقات ، فسخر منه رجال وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعون بصاعك من شيء ، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم : هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لم يبق أحد غيرك» فقال له عبد الرحمن بن عوف فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمجنون أنت؟ قال ليس بي جنون ، قال أفعلت ما فعلت؟ قال : نعم مالي ثمانية آلاف أما أربعة آلاف فأقرضها ربي وأما أربعة آلاف فلي ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» ولمزه المنافقون فقالوا والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله عزوجل عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر فقال تعالى في كتابه : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) (٢) الآية.
وهكذا روي عن مجاهد وغير واحد وقال ابن إسحاق : كان من المطوعين من المؤمنين في
__________________
(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠.
(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠.