وقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا) أي مالوا عن الحق بعد علمه غاية العلم فآثروا الباطل على الحق والشر على الخير والكفر على الإيمان عاقبهم الله فصرف قلوبهم عن الهدى نقمة منه تعالى عليهم ، وذلك لأنّه سنته تعالى فيمن عرض عليه الخبر فأباه بعد علمه به ، ثم دعى إليه فلم يستجب ثم رغب فيه فلم يرغب وواصل الشر مختارا له عندئذ يصبح ما اختار من الفسق أو الكفر أو الظلم أو الإجرام طبعا له وخلقا ثابتا لا يتبدل ولا يتغير. وعلى هذا يؤول مثل قوله تعالى والله لا يهدى القوم الفاسقين ، والله لا يهدي القوم الظالمين ، والله لا يهدي القوم المجرمين ، والله لا يهدي القوم الكافرين لأنه تعالى أضلهم حسب سنته في الإضلال فلا يستطيع أحد غيره تعالى أن يهدي عبدا أضله الله على علم وهذا معنى قوله تعالى من سورة النحل (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ).
وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي اذكر يا رسولنا للاتعاظ والعبرة قول عيسى بن مريم لليهود : يا بني اسرائيل نسبهم إلى جدهم يعقوب الملقب باسرائيل بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليهمالسلام. (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) وهذا برهان على صدقي في دعوتي إذ لم أخالف فيما أدعو إليه من عبادة الله وحده ما في التوراة كتاب الله عزوجل وهو بين أيديكم فوفاقنا دال على أن مصدر تشريعنا واحد هو الله عزوجل فكما آمنتم بموسى وهرون وداود وسليمان آمنوا بي فإني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ (٢) أَحْمَدُ) ، فلهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنا دعوة (٣) أبي إبراهيم وبشارة عيسى ، إذ ابراهيم لما كان يبنى البيت مع اسماعيل كانا يتقاولان ما أخبر تعالى به في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ.). الآية. وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي محمد (٤) صلىاللهعليهوسلم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الدالة على صدق رسالته ووجوب اتباعه في العقيدة والشريعة كفروا به و (قالُوا) في القرآن (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) كما قالها فرعون مع موسى. وكما قالتها اليهود مع عيسى عليهالسلام.
__________________
(١) وجه مناسبة قصة عيسى لما قبلها أن بني اسرائيل كما فسقوا عن أمر الله وعصوا رسوله موسى فسقوا كذلك عن أمر الله وعصوا عيسى وكفروا فكان هذا تعزية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لما لقيه ويلقاه من اليهود.
(٢) هل الاسم هو عين المسمى؟ خلاف كبير والصحيح : أن الاسم هو اللفظ الدال على ذات به تتميز عن سائر الذوات.
(٣) رواه ابن اسحق بسند جيد ورواه أحمد بألفاظ مختلفة.
(٤) جائز أن يكون الضمير في جاءهم عائد إلى عيسى عليهالسلام وعلى محمد صلىاللهعليهوسلم إذ كلاهما قيل فيه سحر أو ساحر قرأ الجمهور (سحرا) في الآيات وقرأ بعضهم : ساحر أي : محمد أو عيسى عليهماالسلام.