ذكر تعالى حال الطغاة الفجار وبين مصيرهم غاية البيان ثنى بذكر المتقين الأبرار وبين مصيرهم وأنه جنات تجري من تحتها الأنهار فقال وقوله الحق وخبره الصدق (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ (١) مَفازاً) أي مكان فوز ونجاح وبينه بقوله (حَدائِقَ) (٢) أي بساتين (وَأَعْناباً وَكَواعِبَ) جمع كاعب الفتاة ينكعب ثديها أي يستدير ويرتفع كالكعب وذلك عند بلوغها وقوله في وصفهن (أَتْراباً) جمع ترب أي في سن واحدة دون الثلاثين سنة (وَكَأْساً (٣) دِهاقاً) أي كأس خمر ملأى (لا يَسْمَعُونَ) أي في الجنة (لَغْواً وَلا كِذَّاباً) لا قولا باطلا ولا كذبا. وقوله تعالى (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جزاهم ربهم بذلك فجعله عطاء كافيا و (٤) وصف الجبار نفسه تعليما وتذكيرا فأبدل من قوله من ربك : قوله (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي مالكهما والمتصرف فيهما (الرَّحْمنِ) رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) ملك عظيم لا يقادر قدره وحده صفا (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) هنا لا يملك أحد من الخلق من الرحمن خطابا وقوله (لا يَتَكَلَّمُونَ) بين يديه (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ (٥) الرَّحْمنُ وَقالَ) قولا (صَواباً) وفي الصحيح أن النبي محمدا صلىاللهعليهوسلم هو أول من يكلم الله عزوجل في الموقف حيث يأتي تحت العرش فيخر ساجدا فلا يزال ساجدا يحمد الله تعالى بمحامد يلهمها ساعتئذ فيقول له الرب تعالى ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقوله تعالى (ذلِكَ (٦) الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لامرية فيه ولا شك وهو يوم الفصل وبناء عليه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي مرجعا إليه بالإيمان والطاعة. وقوله تعالى (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) أي خوفناكم عذابا قريبا جدا يبتدىء بالموت ولا ينتهي أبدا ، وذلك (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير أو شر أي يرى جزاء عمله عيانا إن كان عمله خيرا جزي بمثله وإن كان شرا جزي بمثله. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) إنه لما يرى البهائم بعد القصاص لها صارت ترابا يتمنى الكافر وهو في عذابه أن لو كان ترابا مثل البهائم ولو لا العذاب وشدته ودوامه لما تمنى أن يكون ترابا أبدا.
__________________
(١) المتقون هم الذين اتقوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه فحافظوا بذلك على زكاة نفوسهم فاستوجبوا لذلك الجنات واستحقوها فاللام للمتقين هي لام الاستحقاق.
(٢) (حَدائِقَ) بدل بعض من كل والحدائق جمع ، حديقة ، البستان : المحاط بجدار.
(٣) دهاقا بمعنى ملأى وهذا من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول فالدهاق كالدهق مصدر وأريد به المدهوق أي المملوء.
(٤) كافيا : تفسير كلمة حسابا إذ من أعطي ما يكفيه يقول حسبي.
(٥) الإذن اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل أو قول للمأذون ، وهو مشتق من أذن له إذا استمع إليه. نحو : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ).
(٦) هذه الجملة كالفذلكة لما تقدم من وعد ووعيد وإنذار وتبشير سيق مساق التنويه بيوم الفصل الذي هو اليوم الحق الثابت قطعا.