(المسألة التاسعة عشرة : في أن هذا القرآن الذي هو كلام الله تعالى محدث).
ولا شك أنا إذا قلنا : القرآن محدث ، فإنما نريد به هذه الأصوات والحروف المتلوة في ألسنة الناس.
فأما الكلام النفسي فلسنا نثبته ، فضلا عن أن نقول فيه بقدم أو حدوث ، وأهل التمييز من المجبرة لا يكلمونا في ذلك ؛ لأنهم يعرفون بحدوث هذا الذي نتلوه ، ولكنهم يدّعون أن القرآن معنى قائم بالنفس غير هذا الذي نسمعه ، فموضع مكالمتهم نفي هذا المعنى النفسي وقد تقدم.
وأما غير المميزين كالكرامية والحنابلة وبعض أهل الحديث ، فيعترفون بأن القرآن هو هذه الحروف والأصوات المسموعة ، ويدعون أنه قديم ، (والذي يدل على) بطلان قولهم في (ذلك) من جهة العقل : (أنه مرتب منظوم في الوجود يوجد بعضه في أثر بعض) ، فوجب القطع بأنه محدث ، (و) ذلك لأن (المرتب على هذا الوجه يجب أن يكون محدثا وذلك ظاهر) ، فإن الألف من الحمد متقدم على اللام ، واللام على الحاء وكذلك سائره ، وكل ما تقدمه غيره فهو محدث ، وكذلك ما يتقدم على المحدث بأوقات محصورة فهو محدث ، (وقد) جاء بتأييد ذلك الكتاب ، ف (قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)) [الأنبياء : ٢] (و) مثله ما (قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ)) [الشعراء : ٢٦] ولا شك أن المراد بالذكر القرآن بدليل : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ، وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقوله : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٢١] ، وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس : ٦٩] ، ومثل : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وغير ذلك ، والسبب في قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ) الآية ، يشهد بذلك ؛ لأنهم كانوا يلعبون ويلغون عند نزول القرآن وتلاوته ، وقال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً