والاختيار كما مر في مسألة قادر (والأفعال المحكمة لا تصح إلا من عالم ، والدليل على أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء أنه أوجد العالم على سبيل الترتيب والنظام ؛ لأن فيه من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة ما يزيد على كل صناعة محكمة في الشاهد من بناء وكتابة وغيرهما) وإذا نظر المتأمل إلى خلق السماء المرفوعة وكونها كالسقف ، وإلى الأرض المبسوطة ، وإلى ما أعد الله فيها من النبات ، ومن المياه الجارية والمستخرجة ، والجبال الراسية ، والأخاديد ، والآكام ، والشّم الشوامخ ، وإلى زينة السماء بالشمس والقمر ، وحكمة مطالعهما ومغاربهما وكونهما ضياء ، وإلى الشّهب التي هي كالمصابيح المضيئة ، فالسماء والأرض كالبيت المسقوف ، والقمران والنجوم كالمصابيح المعدة للاهتداء بها إلى رؤية ما في البيت ، والواحد منا كالمالك المتصرف في بيته مع الشموع المشتعلة والمصابيح المضيئة.
ثم انظر إلى خلق الإنسان وتركيبه ، فقد كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم ، والدم يقويهما ، وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط بما فيها من القوة والمتانة ، ثم تركب من ذلك آلات وحواسّ حية موافقة للمصالح مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته ، وإلى ذلك أشار تعالى بقول : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [الزمر : ٦] والظلمات الثلاث : هي ظلمة البطن ، وظلمة المشيمة (١) ، وظلمة الرحم ، ثم انظر موضع العينين (٢) ما أنسبهما بموضعهما مرتفعتان عمّا يؤذيهما ، محفوفتان بالأجفان عن القذاء ، في موضع لا يحتاجان إلى التغطية باللباس فلم يكونا في ظهر ولا بطن مع الجمال البديع.
وانظر إلى ستر القذر في البطن بالسواتر العظيمة ، بحيث لا يحس له حس ، ولا يظهر
__________________
(١) المشيمة : هو الغشاء الذي على الولد.
(٢) إلى هنا انتهى ما كملنا به موضع النقص ، والله ولي الهداية. عبد الرحمن حسين شائم غفر الله له.