وحاول بعضهم أن يجيب عما يقرب من هذا الكلام. فقال : إن العاجز لا يجد من نفسه أنه إن لم يشأ الفعل فإنه لا يمكنه أن لا يفعل (وأما القادر على الفعل فإنه يجد من نفسه أنه إن شاء أن لا يفعل فإنه يمكنه أن لا يفعل) (١) وهذا الفرق معلوم بالضرورة. ولما كان العلم بهذا الفرق ضروريا. فحينئذ لا حاجة بنا إلى بيان أنه كيف حصل هذا الفرق؟ ولقائل أن يقول : هذا الجواب ضعيف. وذلك لأن ترك الفعل إما أن يكون أمرا زائدا على البقاء على العدم الأصلي المستمر ، وإما أن لا يكون كذلك. بل هو عبارة عن نفس ذلك العدم المستمر. والأول باطل لوجوه : الأول : إن على هذا التقدير يكون القادر قادرا على فعل الشيء وعلى فعل ضده. ولا يكون البتة قادرا على الفعل وعلى ترك الفعل لأن فعل الضدّ فعل خاص. والفعل الخاص لا يكون تركا لمسمى الفعل ، وإلا لزم أن يكون أحد النقيضين عين الثاني ، وهو محال. فثبت أن على هذا التقدير لا يكون القادر قادرا البتة على الترك. والثاني : إن الله تعالى كان قادرا على خلق العالم وعلى تركه ، فإذا صار تركه مفسرا بفعل ضده ، فحين كان الله تاركا للعالم ، وجب أن يكون فاعلا لضده. فلما كان في الأزل تاركا لفعل العالم ، وجب أن يقال : إنه كان في الأزل فاعلا لضد العالم ، لكن الفعل الأزلي عند القوم محال. وأيضا : فعلى هذا التقدير كان ضد العالم أزليا ، والأزل لا يزول فوجب أن لا يزول ضد العالم. وإذا امتنع زوال ضده وجب أن يمتنع دخول العالم في الوجود. وذلك باطل. والثالث : إن التارك للفعل يجد من نفسه أنه ما فعل شيئا ، وأنه لا معنى لكونه تاركا للفعل إلا أنه لم يأت بذلك الفعل البتة. فالقول بأن ترك الفعل عبارة عن الإتيان بضده قول فاسد ، فيثبت بما ذكرنا : أن ترك الفعل ليس عبارة عن الإتيان بفعل آخر ، بل هو عبارة عن البقاء على العدم الأصلي المستمر. وقد بينا أن إسناد العدم المستمر إلى القادر والفاعل محال فيثبت أن القادر لا قدرة له البتة على الترك وإذا كان الأمر كذلك كان القول بأن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك بحسب الدواعي المختلفة : قولا باطلا. والله أعلم.
__________________
(١) من (س).